الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} (49)

قوله : { تَقَاسَمُواْ } : يجوز في " تقاسموا " أَنْ يكونَ أمراً أي : قال بعضُهم لبعضٍ : احْلِفُوا على كذا . ويجوز أن يكونَ فعلاً ماضياً ، وحينئذٍ يجوز أَنْ يكونَ مفسِّراً ل " قالوا " ، كأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : تقاسَمُوا . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار " قد " أي : قالوا ذلك متقاسِمِيْن ، وإليه ذهب الزمخشري ، فإنه قال : " يُحْتمل أَنْ يكونَ أمراً وخبراً في محلِّ الحالِ بإضمار قد " . قال الشيخ : " أمَّا قولهُ : " وخبراً " فلا يَصِحُّ لأنَّ الخبرَ أحدُ قسمَيْ الكلام ؛ لأنه ينقسم إلى الخبرِ والإِنشاء ، وجميعُ معانيه إذا حُقِّقَتْ راجعةٌ إلى هذين القسمين " . قلت : ولا أدري : عدمُ الصحة مِنْ ماذا ؟ لأنه جَعَلَ الماضي خبراً لاحتمالِه الصدقَ والكذبَ مقابلاً للأمرِ الذي لا يَحْتَملهما . أمَّا كونُ الكلامِ لا ينقسِمُ إلاَّ إلى خبر وإنشاء ، وأنَّ معانِيَه إذا حُقِّقَتْ تَرْجِعُ إليهما ، فأيُّ مَدْخلٍ لهذا في الردِّ على أبي القاسم ؟

ثم قال الشيخ : والتقييدُ بالحالِ ليس إلاَّ من باب نسبةٍ التقييدِ لا من نسبةِ الكلامِ التي هي الإِسنادُ ، فإذا أُطْلِقَ عليها الخبرُ كان ذلك على تقديرِ : أنَّها لو لم تكنْ حالاً لجازَ أَنْ تُستعملَ خبراً . وكذلك قولُهم في الجملةِ الواقعةِ صلةٌ : هي خبريةٌ فهو مجازٌ والمعنى : أنها لو لم تكن صلةً لجاز أَنْ تُستَعْمَلَ خبراً وهذا فيه غموضٌ " . قلت : مُسَلَّمٌ أنَّ الجملةَ ما دامَتْ حالاً أو صلةً لا يُقال لها : خبرية ، يعني أنها تَسْتَقِلُّ بإفادةِ الإِسنادِ ؛ لأنها سِيْقَتْ مَسَاقَ القَيْدِ في الحالِ ومَسَاقَ جزءِ كلمةٍ في الصلةِ ، وكان ينبغي أن تُذْكَرَ أيضاً الجملةُ الواقعةُ صفةً فإن الحكمَ فيها كذلك .

ثم قال : " وأمَّا إضمارُ " قد " فلا يُحتاج إليه لكثرةِ وقوع الماضي حالاً دون " قد " ، كثرةً ينبغي القياسُ عليها " قلت : الزمخشريُّ مَشَى مع الجمهورِ ؛ فإنَّ مذهَبهم أنه لا بُدَّ من " قد " ظاهرةً أو مضمرةً لِتُقَرِّبَه من الحال .

وقرأ ابنُ أبي ليلى " تَقَسَّموا " دونَ ألفٍ مع تشديد السين . والتقاسُمُ والتَّقَسُّم كالتظاهُر والتظَهُّر .

قوله : { بِاللَّهِ } إن جَعَلْتَ " تقاسَمُوا " أمراً تَعَلَّق به الجارُّ قولاً واحداً ، وإنْ جَعَلْتَه ماضياً احْتَمَلَ أَنْ يَتَعلَّقَ به ، ولا يكونُ داخلاً تحت المَقُولِ ، والمقولُ هو " لَنُبَيِّتَنَّه " إلى آخره . واحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ هو فعلُ القسمِ ، وجوابه " لَنُبَيِّتَنَّه " فعلى هذا يكونُ مع ما بعده داخلاً تحتَ المَقُوْلِ .

قوله : { لَنُبَيِّتَنَّهُ } قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ . " ثم لَنَقولَنَّ " قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ . والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ .

ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن ، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين . وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني .

فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن : فإنْ جَعَلْنا " تقاسَمُوا " فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه . وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك . وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ : فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً ، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم . وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ " تَقاسَمُوا " ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ . وإنْ جَعَلْناه أمراً كان " لَنُبيِّتَنَّه " جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : كيف تقاسَمُوا ؟ فقيل : لنبيِّتَنه . وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين .

قال الزمخشري : " وقُرِىءَ " لَنُبيِّتَنَّه " بالياء والتاء والنون . فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان " يعني يَصِحُّ في " تقاسَمُوا " أن يكونَ أمراً ، وأَنْ يكونَ خبراً قال : " ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً " . قلت : وليس كذلك لِما تقدَّم : مِنْ أنَّه يكونُ أمراً ، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ . وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال : " تقاسَمُوا " فيه وجهان ، أحدهما : هو أمرٌ أي : أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً . فعلى هذا يجوزُ في " لَنُبَيِّتَنَّه " النونُ تقديرُه : قولوا : لَنُبَيِّتَنَّهُ ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ . ولا يجوزُ الياء . والثاني : هو فعل ماضٍ . وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه : النونَ والتاءَ والياءَ . قال : " وهو على هذا تفسيرٌ " أي : تقاسَمُوا على كونِه ماضياً : مُفَسِّرٌ لنفسِ " قالوا " . وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ . وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة . وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم ، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى . وتقدَّم الكلامُ في { مَهْلِكَ أَهْلِهِ } في النمل .