الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

قوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ } : جوابٌ لقسم محذوف . وقرىء " لِمنْ مَنِّ الله " ب " مِنْ " الجارة ، و " مَنِّ " بالتشديدِ مجرورٌ بها . وخَرَّجه الزمخشري على وجهين ، أحدُهما : أَن يكونَ هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديرُه : " لِمنْ مَنِّ الله على المؤمنين مَنُّه أو بَعْثُه إذ بعث ، فحُذِف لقيام الدلالة ، والثاني : أنه جُعِل المبتدأُ نفسَ " إذ " بمعنى وقت ، وخبرُها الجارُّ قبلَها تقديرُه : لِمْن مَنِّ اللهِ على المؤمنين وقتُ بعثه ، ونَظَّره بقولِهم : " أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ إذا كان قائماً " . وهذان الوجهانِ في هذه القراءةِ مِمَّا يَدُلاَّن على رسوخِ قدمِه في هذا العلمِ .

إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ عليه الوجَه الثاني بأنَّ " إذ " غيرُ متصرفةٍ ، لا تكونُ إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسمُ زمان ، أو مفعولةً باذكر على قولٍ . ونَقَل قولَ أبي علي فيها وفي " إذا " أنهما لا تكونان فاعلين ولا مفعولين ولا مبتدأين . قال : " ولا يُحْفَظُ مِنْ كلامِهم : " إذ قام زيدٌ طويلٌ " يريد : وقتُ قيامِه طويلٌ ، وبأنَّ تنظيرَه القراءةَ بقولِهم : " أخطبُ " إلى آخره خطأ ، من حيث إنَّ المشبه مبتدأٌ والمُشَبَّه [ به ] ظرفٌ في موضعِ الخبرِ عند مَنْ يُعْرِبُ هذا الإِعرابَ ، ومِنْ حيث إنَّ هذا الخبرَ الذي قد أبْرزه ظاهراً واجبُ الحذفِ لسدِّ الحالِ مسدَّه ، نصَّ عليه النحويون الذين يُعْرِبونه هكذا فكيف يُبْرِزُه في اللفظِ " . وجوابُ هذا الردِّ واضحٌ ، وليت أبا القاسم لم يَذْكُرْ تخريجَ هذه القراءةِ حتى كنا نسمع .

والجمهورُ على ضَمِّ السين من " أنفسهم " أي : مِنْ جملتهم وجنسهم . وقرأت عائشة وفاطمة والضحاك ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء من النَّفاسة ، وهي الشرف أي : أشرفِهم نسباً وخَلْقاً وخُلُقاً . وعن علي عنه عليه السلام : " أنا أَنْفَسُكم نَسَباً وحَسَباً وصِهْراً " .

وهذا الجارُّ يَحْتمل وجهين أحدُهما : أَنْ يتعلَّق بنفس " بعث " . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ ل " رسولاً " فيكونُ منصوبَ المحلِّ ، ويَقْوى هذا الوجهُ على قراءةِ فتح الفاء ، وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } في محل حال أو مستأنف ، وقد تقدَّم نظيرُها في البقرة .

وقوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي } هي " إنْ " المخففةُ واللام فارقة ، وقد تقدَّم الكلامُ على تحقيق هذا والخلافِ فيه . إلاَّ أنَّ الزمخشري ومكيّاً هنا حين جعلاها مخففةً قدَّرا لها اسماً محذوفاً ، فقال الزمخشري : " تقديرُه : وإنَّ الشأنَ والحديثَ كانوا من قبل " . وقال مكي : " وأمَّا سيبويهِ فإنه يقول إنَّها محففةٌ واسمُها مضمرٌ " ، والتقديرُ : على قولِه : " وإنهم كانوا " . وهذا ليس بجيد ، لأنَّ " إنْ " المخففةَ إنما تعمل في الظاهرِ على غير الأفصحِ ، ولا عمل لها في المضمر ، ولا يُقَدَّرُ لها اسمٌ محذوفٌ البتَّةَ ، بل تُهْمَلُ أو تعمل على ما تقدَّم ، مع أنَّ الزمخشري لم يُصَرِّحْ بأنَّ اسمَها محذوفٌ ، بل قال : " إنْ هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ ، وتقديرُه : وإنَّ الشأن والحديثَ كانوا " فقد يكونُ هذه تفسيرَ معنىً لا إعرابٍ .

وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، والثاني : في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعولِ في " يُعَلِّمُهم " وهو الأظهرُ .