الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } : [ " أَنْ يَغُلًّ " في محلِّ رفعٍ اسمَ كان ، و " لنبي " خبرٌ مقدم ] أي : ما كان له غُلول أو إغْلال على حَسَبِ القراءتين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ " غَلَّ " مبنياً للفاعل ، ومعناه : أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما ، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة . وقرأ الباقون " يُغَلَّ " مبنِيّاً للمفعول . وهذه القراءةُ فيها احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ من " غَلَّ " ثلاثياً ، والمعنى : ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه ، فهو نفيٌ في معنى النهي أي : لا يَغُلُّه أحدٌ . والاحتمال الثاني : أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ من أَغَلَّه : أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم : أَكْذَبْتُه أي : نَسَبْتُه إلى الكذب ، وهذا في المعنى كالذي قبله أي : نفيٌ في معنى النهي أي : لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول . والثاني : أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم : أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي : وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً . والظاهر أن قراءة " يَغُلَّ " بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك : " هو يعطي ويمنع " تريدُ إثباتَ هاتَين الصفتين . وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال : " تقديرُه : أَنْ يَغُلَّ المالَ أو الغنيمةَ " .

واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا : لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ " ما كان لكذا أن يفعل " أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو :

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ }

[ آل عمران : 179 ] وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى .

والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر ، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة . وأصلُه منْ " خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها " أي : تركَتْه منفرداً ، ولهذا قيل لها : خاذِل . ويقال للولدِ المتروك أيضاً : خاذِل ، وهذا على النسب ، والمعنى أنها مخذولةٌ ، قال بُجَيْر :

بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ *** من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا

ويُقال له أيضاً : خَذول ، فَعُول بمعنى مَفْعول . قال :

خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ *** تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي

ومنه يُقال : تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ " قال الأعشى :

بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ *** وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ

ومعنى المادة : هذا الترك الخاص .

والغُلول في الأصلِ : تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها ، والغَلَلُ : تَدَرُّعُ الشيء وتوسُّطه ، ومنه : " الغَلَلُ " للماءِ الجاري بين الشجرِ ، والغِلُّ : الحِقْدُ لكُمونه في الصدر ، وتَغَلْغَلَ في كذا : إذا دخَل فيه وتوسَّط ، قال :

تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ *** ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ

فالغُلولُ الذي هو الأخْذُ في خُفْيَةٍ مأخوذٌ من هذا المعنى ، ومنه : " أَغَلَّ الجازِرُ " إذا سرق أو ترك في الإِهاب شيئاً من اللحم . وفَرَّقت العربُ بين الأفعالِ والمصادرِ فقالوا : غَلَّ يَغُلُّ غُلولاً بالضَّمِّ في المصدر والمضارع إذا خان ، وغل يَغِلُّ غِلاًَّ بالكسر فيهما . قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الأعراف : 43 ] أي حِقد .

قوله : { وَمَن يَغْلُلْ } الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ، وإنما جِيء بها للرَّدْع عن الإِغلالِ . وزعم أبو البقاء أنها يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، ويكونُ التقديرُ : في حال علم الغَالِّ بعقوبةِ الغُلول ، وهذا وإنْ كان محتَمَلاً ولكنه بعيدٌ . و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ أي : غِلُّه ، ويَدُلُّ على ذلك الحديثُ : " إنَّ أحدَهم يأتي بالشيء الذي أخذَه على رقبتِه " . ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً ، وتكونُ على حَذْفِ مضاف أي : بإثمِ غلولِه .

وقولُه : { ثُمَّ تُوَفَّى } هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الشرطية ، وفيها إعلامٌ أنَّ الغالَّ وغيرَه مِنْ جميعِ الكاسبين لا بُدَّ وأن يُجازوا فيندرجَ الغالُّ تحت هذا العموم أيضاً فكأنه ذُكِر مرتين . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : هَلاَّ قيل : " ثم يُوَفَّى ما كسَب " ليتصلَ به . قلت : جِيء بعامٍّ دخَل تحتَه كلُّ كاسبٍ من الغالِّ وغيرِه فاتَّصل به من حيثُ المعنى ، وهو أثبتُ وأبلغُ " .