الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

قوله تعالى : { فَبِمَا } : في " ما " وجهان ، أحدهُما : أنها زائدةٌ للتوكيدِ والدلالةِ على أن لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من الله ، ونظيرُه : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] . والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ ، بل هي نكرة وفيها وجهان ، أحدهُما : أنها موصوفةٌ برحمة ، أي : فبشيء رحمةٍ ، والثاني : أنها غيرُ موصوفة ، و " رحمةٍ " بدلٌ منها ، نقله مكي عن ابن كيسان . ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ ، و " رحمةٍ " بدلٌ منها ، كأنه أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال . وجَوَّز بعضُ الناس وعَزاه الشيخ لابن خطيب الريّ أنَّ " ما " استفهاميةٌ للتعجب تقديرُه : فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم ، وذلك فإنَّ جنايتَهم لَمَّا كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر تغليظاً في القول ولا خشونةً في الكلام علموا أنَّ ذلك لا يتأتَّى إلا بتأييد ربَّاني قبلَ ذلك . وردَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يَخْلُو : إمَّا أَنْ تُجْعَلَ " ما " مضافةً إلى " رحمة " ، وهو ظاهرُ تقديرِه كما حكاه عنه ، فيَلْزَمُ إضافةُ " ما " الاستفهاميةِ ، وقد نَصُّوا على أنه لا يُضاف من أسماءِ الاستفهام إلا " أيّ " اتفاقاً ، و " كم " عند الزجاج ، وإمَّا أَنْ لا تجعلَها مضافةً ، فتكونُ " رحمةٍ " بدلاً منها ، وحينئذ يلزمُ إعادةُ حرف الاستفهام في البدل كما تقرَّر في علم النحو ، وأنحى عليه في كلامه فقال : " وليته كان يُغْنيه عن هذا الارتباكِ والتسلُّقِ إلى ما لا يُحْسِنُه قولُ الزجاج في " ما " هذه إنها صلةٌ فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين " انتهى .

وليس لقائلٍ أن يقولَ له : أَنْ يجعلَها غيرَ مضافةٍ ولا يجعلَ " رحمة " بدلاً حتى يلزمَ إعادةُ حرفِ الاستفهامِ بل يَجْعَلُها صفةً ؛ لأنَّ " ما " الاستفهامية لا تُوصف ، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي ، كان لا يُجَوِّزُ أن يقال في القرآن : " هذا زائدٌ " أصلاً . وهذا فيه نظرٌ ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً لا يَعْنُون أنه يجوزُ سقوطُه ولا أنه مهمل لا معنى له ، بل يقولون : زائدٌ للتوكيد ، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن ، و " ما " كما تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين " عَنْ " و " مِنْ " والكاف ومجرورها كما سيأتي .

وقال مكي : " ويجوز أن ترتفعَ " رحمةٍ " على أَنْ تَجْعَلَ " ما " بمعنى الذي ، وتُضْمِرَ " هو " في الصلة وتَحْذِفَها كما قرىء : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ } .

وقولُه : " ويجوزُ " يعني من حيث الصناعةُ ، وأمَّا كونُها قراءةً فلا أحفظها .

والفَظَاظَة : الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً . قال :

أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ *** وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى الكَلِمِ

والغُِلْظُ : تكثير الأجزاء ، ثم تُجُوِّز به في عدمِ الشفقةِ وكثرةِ القسوة في القلب قال :

يُبْكَى علينا ولا نَبْكي على أحدٍ *** لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإِبلِ

وقال الراغب : الفظُّ كريه الخُلُق وذلك مستعارٌ من الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِش ، وذلك مكروه شربُه إلا في ضرورةٍ " ، قال : " الغِلْظَةُ : ضدُّ الرِّقة ، ويقال : غُلْظة وغِلْظة أي بالكسر والضم " وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ ؟ فقيل : قُدِّم ما هو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب ، لأنه كما تقدَّم أنَّ الفَظاظةَ : الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً ، والغِلْظُ : قساوةُ القلب ، وهذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً ، وجُمِع بينهما تأكيداً .

والانفضاضُ : التفرُّق في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه : " فُضَّ خَتْمُ الكتابِ " ثم استُعير عنه " انفضاضُ الناسِ " ونحوِهم .

وقوله : { فَاعْفُ عَنْهُمْ } إلى أخره جاء على أحسنِ النسق ، وذلك أنه أَمَر أولاً بالعفوِ عنهم فيما يتعلَّقُ بخاصةِ نفسِه ، فإذا انتهَوا إلى هذا المقام أُمِرَ أن يَسْتغفِرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاحَ عنهم التَّبِعَتان ، فلمَّا صاروا إلى هذا أُمِر بأنْ يُشاوِرَهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التَّبِعَتَيْن مُصَفَّيْن منهما ، والأمرُ هنا وإنْ كان عاماً فالمرادُ به الخصوص ، قال أبو البقاء : " إذ لم يُؤْمَرْ بمشاورتِهم في الفرائضِ ، ولذلك قرأ ابن عباس : " في بعضِ الأمر " . وهذا تفسيرٌ لا تلاوة .

وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ } الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه السلام . وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها ، على أنها لله تعالى على معنى : فإذا أرشَدْتُك إليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه ، وجاء قوله : { عَلَى اللَّهِ } من الالتفات ، إذ لو جاء على نَسَقِ هذا الكلامِ لقيل : فتوكَّلْ عليَّ ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة : " ثم عَزَمَ الله لي " وذلك على سبيل المجاز .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } جارٍ مَجْرى العلةِ الباعثةِ على التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمر/ .