قوله تعالى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } : هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً وإعراباً وتفسيراً ، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب - رحمه الله- في كتابه المسمى بالكشف : " هذه الآيةُ في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعب آيٍ في القرآن وأشكلِها ، قال : " ويحتمل أن يُبْسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر " قال : وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد " . وقال ابن عطية : " وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ، وذلك بَيِّنٌ من كتابه " وقال السخاوي : " لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّص كلامُه فيها من أولها إلى آخرها " . وقال الواحدي : " وهذه الآية وما بعدها من أغوص ما في القرآن معنى وإعراباً " قلت : وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع ، وأمَّا بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه في كتابي " تفسير القرآن العزيز " إنْ شاء الله ، وبه الحول والقوة .
قرأ الجمهور { شهادةُ بينكم } برفع " شهادة " مضافة ل " بينكم " . وقرأ الحسن والأعرج والشعبي برفعها منونة ، " بينَكم " نصباً . والسلمي والحسن والأعرج - في رواية عنهما - " شهادةً " منونةً منصوبة ، " بينَكم " نصباً . فأمَّا قراءة الجمهور ففي تخريجهما خمسة أوجه ، أحدها : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، وخبرُها " اثنان " ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، فتقديرُه من الأول : ذوا شهادةِ بينكم اثنان ، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان ، وتقديرُه من الثاني : شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين ، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد ، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جثتان ، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو : " زيدٌ عدلٌ " وهما جعله نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل ، لأنَّ المعنى يأباهما هنا ، إلا أنَّ الواحدي نقل عن صاحب " النظم " أنه قال : " شهادة " مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء " يريد بالشهادة الشهود ، كما يقال : رجلٌ عَدْلٌ ورِضا ، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر ، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف ، ويكون المعنى : عدةُ شهودٍ بينكم اثنان ، واستشهد بقوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] أي : وقت الحج ، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل : الحج في اشهر " . قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ المصدر نفسَ الشهود مبالغةً ، ولذلك مَثَّله ب " رجال عدل " وفيه نظر . الثاني : أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها محذوف يَدُلُّ عليه سياق الكلام ، و " اثنان " على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو " شهادة " والتقدير : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ، كذا قَدَّره الزمخشري وهو أحد قولي الزجاج ، وهو ظاهرُ جداً ، و " إذا " على هذين الوجهين ظرف ل " شهادة " أي ليُشْهَد وقت حضور الموت - أي أسبابه - و " حين الوصية " على هذه الأوجه فيه ثلاثة أوجه ، أوجهها : أنه بدلٌ من " إذا " ولم يذكر الزمخشري غيره ، قال : " وفي إبدالِه منه دليلٌ على وجوبِ الوصية " .
الثاني : أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي : يقع الموت وقت الوصية ، ولا بُدَّ من تأويله بأسبابِ الموت ؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصيةَ فيه . الثالث : انه منصوبٌ ب " حَضَر " أي : حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية .
الثالث : أنَّ " شهادةُ " مبتدأ وخبره : " إذا حضر " أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت/ ، و " حين " على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً ، ولا يجوزُ فيه والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلتِه وهو لا يجوز ، وقد عرفت شرح ذلك مِمَّا مَرًَّ . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يستدرك هذا ، وهو عجيب منه . الرابع : أنَّ " شهادة " مبتدأُ ، وخبرُها " حين الوصية " و " إذا " على هذا منصوبٌ بالشهادة ، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى عليه ؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو كان ظرفاً ، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه ، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة وهي : إذا كان المضافُ لفظة " غير " ، وأنشدوا :
إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه *** على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
ف " عندي " منصوبُ ب " مكفور " ، قالوا : لأنَّ " غير " بمنزلة " لا " ، و " لا " يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها . وقد ذكر الزمشخري ذلك آخرَ الفاتحة ، وذكر أنه يجوزُ " أنا زيداً غيرُ ضارب " دون " أنا زيداً مثلُ ضارب " . و " اثنان " على هذين الوجهين الآخيرين يرتفعان على أحدِ وجهين : إمَّا الفاعليةِ أي : " يشهد اثنان " يدل عليه لفظ " شهادة " وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب " شهادة " أيضاً أي : الشاهدان اثنان .
الخامس : أنَّ " شهادةُ " مبتدأ ، و " اثنان " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، ذكره أبو البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء ، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ فعلِ الأمر كأنه قال : " ليشهد اثنان " فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب ، وهو مثل " الحمدُ لله " و { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] من حيث المعنى ، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو : " ضَرْبي زيداً قائماً " يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر ، وهذا مذهب ضعيفٌ ردَّه النحويون ، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو : " قام أبواك " وعلى هذا المذهب ف " إذا " و " حين " ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما في غير هذا الوجه . وقد تحصَّلْنا فيما تقدَّم أن رفع " شهادة " من وجه واحد وهو الابتداء ، وفي خبرها خمسة أوجه تقدَّم ذكرُها مفصلةً ، وأنَّ رفع " اثنان " من خمسة أوجه ، الأول : كونه خبراً لشهادة بالتأويل المذكور ، الثاني : أنه فاعل ب " شهادة " ، الثالث : أنه فاعل ب " يشهد " مقدراً ، الرابع : أنه خبر مبتدأ أي : الشاهدان اثنان . الخامس أنه فاعل سَدَّ مسدَّ الخبر . وأنَّ في " إذا " وجهين : إمَّا النصبَ على الظرفية ، وإمَّا الرفعَ على الخبرية ل " شهادة " ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبل . وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدم في قراءة الجمهور من غير فرق .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وإليه ذهب ابن جني - : أنها منصوبةٌ بفعل مضمر ، و " اثنان " مرفوع بذلك الفعل ، والتقدير : لِيُقِمْ شهادةَ بينكم اثنان ، وتبعه الزمشخري على هذا فذكره . وقد ردَّ الشيخ هذا بأن حَذْفَ الفعل وإبقاء فاعله لم يُجِزْه النحويون إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 3637 ] في قراءة ابن عامر وأبي بكر أي : يسبحه رجال ، ومثله ، :
ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ *** ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ : هل يُنْقاسُ أو لا ؟ أو يُجاب به نفي كقوله :
تَجَلَّدْتُ حتى قيل : لم يَعْرُ قلبَه *** من الوجدِ شيءٌ قلتُ : بل أعظمُ الوَجْدِ
أي : بل عراه أعظمُ الوجد ، أو يُجاب به استفهامٌ كقوله :
ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي *** نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه العوائِقُ
أي : بل أتاها أو يَأْتيها ، وما نحن فيه ليس من الأشياء الثلاثة . الثاني : أن " شهادةً " بدل من اللفظ بفعل أي : إنها مصدر ناب مناب الفعل فيعملُ عملَه ، والتقدير : لِيَشْهد اثنان ، ف " اثنان " فاعل بالمصدر لنيابته منابَ الفعلِ ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ على حَسَبِ الخلاف في أصل المسألة ، وإنما قَدَّرْتُه " ليشهد اثنان " فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر ، ولم أقدِّرْه فعلَ أمرٍ بصيغة " افعل " كما يُقَدَّرُه النحويون في نحو : " ضرباً زيداً " أي : اضرِبْ ، لأنَّ هذا قد رَفَع ظاهراً وهو " اثنان " وصيغةُ " افعل " لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً ، ومثلُه قوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ
ف " زريق " يجوز أن يكون منادى أي : يا زرق ، والثاني : أنه مرفوع ب " ندلاً " على أنه واقعٌ موقع " ليندلْ " وإنما حُذِف تنوينه/ لالتقاء الساكنين على حَدِّ قوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
الثالث : أنَّ " شهادةً " بدل من اللفظ بفعل أيضاً ، إلا أنَّ هذا الفعل خبري وإن كان أقلَّ من الطلبي نحو : " حمداً وشكراً لا كفراً " و " اثنان " أيضاً فاعلٌ به تقديرُه : يشهد شهادةً اثنان ، وهذا أحسن التخاريج المذكورة في قول امرئ القيس :
وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" وقوفاً " مصدرٌ بدلٌ من فعل خبري رفع " صحبي " ونصب " مطيهم " تقديره : وقف صحبي ، وقد تقدَّم أنَّ الفراء في قراءة الرفع قَدَّر أن " شهادة " واقعةٌ موقعَ فعل ، وارتفع " اثنان " بها ، وتقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكونَ مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر . و " بينكم " في قراءةِ مَنْ نوَّن " شهادة " نصبٌ على الظرف وهي واضحةٌ .
وأمَّا قراءةُ الجر فيها فَمِنْ باب الاتساع في الظروف أي بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ ، ومثلُه : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] وكقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن رفع قال الشيخ : " وقال الماتريدي - وتبعه الرازي إنَّ الأصلَ " ما بينكم " فحذف " ما " . قال الرازي : " وبينكم " كنايةٌ عن التنازع ، لأنه إنما يُحتاج إلى الشهود عند التنازع ، وحَذْفُ " ما " جائزٌ عند ظهورِه ، ونظيرُه كقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكَمْ } في قراءة من نصب " . قال الشيخ : " وحَذْفُ " ما " الموصولة غيرُ جائز عند البصريين ، ومع الإِضافة لا يَصِحُّ تقدير " ما " البتة ، وليس قولُه { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي } نظيرَ { لقد تقطَّع بينكم } لأن هذا مضافٌ ، وذلك باقٍ على ظرفيتِه فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ " ما " بخلاف " هذا فراقُ بيني " و " شهادةُ بينكم " فإنه لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ " ما " لأنَّ الإِضافة أخْرَجَتْه عن الظرفية وصَيَّرَته مفعولاً به على السعة " قلت : هذا الذي نقله الشيه عنهما قاله أبو علي الجرجاني بعينه قال - رحمه الله - : " قولُه شهادةُ بينكم " أي : ما بينكم ، و " ما بينكم " كناية عن التنازع والتشاجر ، ثم اضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحُتاج إليهم في التنازع الواقعِ فيما بين القوم ، والعربُ تضيف الشيء إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِِ } [ الرحمن : 46 ] أي : مقامه بين يدي ربه ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذِكْرَ " ما " و " مَنْ " في الموضع الذي يُحتاج إليهما فيه كقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } [ الإِنسان : 20 ] أي : ما ثَمَّ ، وكقوله : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } و { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أي ما بيني ، وما بينكم " ، وقول الشيخ " لا يُتَخَيَيَّل فيه تقدير " ما " إلى آخره " ممنوعٌ لأنَّ حالة الإِضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف ، ولا يَلْزم من ذلك أَنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى لا من حيث الإِعرابُ نظراً إلى الأصلِ ، وأمَّا حَذْفُ الموصولِ فقد تقدَّم تحقيقُه .
وقوله : { ذوا } صفةٌ لاثنين أي : صاحبا عدل ، وكذلك قولُه " منكم " صفة أيضاً لاثنين ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ } نسقٌ على اثنين ، و " من غيركم " صفةٌ لآخَرَين والمراد ب " منكم " من قرابِتكم وعِتْرَتِكم ، ومن غيركم من المسلمينَ الأجانبِ وقيل : " منكم " من أهل دينكم ، " ومن غيركم " من أهل الذمة . ورجَّح النحاسُ الأولَ ، فقال : " هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية ، وذلك أنَّ معنى " آخر " في العربية من جنس الأولِ تقولُ : " مررت بكريمٍ وكريم آخر " ولا يجوز " وخسيس آخرَ " ولا : " مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ " ، فكذا هنا يجب أن يكون " أو آخَران " : أو عَدْلان آخران ، والكفارُ لا يكونون عُدولاً . وردَّ الشيخ ذلك فقال : " أمَّا ما ذكره من المُثُل فصحيح لأنه مَثًَّل بتأخير " آخَر " وجَعَلَه صفة لغير جنس الأول ، وأمَّا الآية فمن قبيل ما يُقَدَّم فيه " آخر " على الوصف واندرج " آخر " في الجنس الذي قبلَه ، ولا يُعْتَبرُ وصفُ جنس الأول ، تقول : " مررتُ برجلٍ مسلمٍ وآخرَ كافرٍ ، واشتريت فرساً سابقاً وآخرَ بطيئاً " ولو أخَّرْتَ " آخر " في هذين المثالين فقلت : " مررتُ برجل مسلم وكافر آخر " لم يَجُزْ ، وليس الآية من هذا لأن تركيبَها " اثنان ذوا عَدْل منكم أو آخران من غيركم " ف " آخران " من جنسِ قوله " اثنان " ولا سميا إذا قَدَّرْته : " رجلان اثنان " ف " آخران " هما من جنس " رجلان اثنان " ، ولا يُعتبر وصفُ قولِه : " ذوا عدل منكم " وإن كان مغايراً لقوله " من غيركم " ، كما لا يُعتبر وصفُ الجنس في قولك : " عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران " ، إذ ليس من شرطِ " آخر " إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفِه ، وعلى ما ذكرته جاء لسان العرب قال الشاعر :
كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على *** قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ
وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ *** مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
التقدير : كانوا فريقين : فريقاً - أو ناساً - يُصْفون الزجاج ، ثم قال : وآخرين ترى الماذِيَّ ، ف " آخرين " من جنس قولك " فريقاً " ولم يعتبره بوصفه بقوله " يصفون الزجاج " لأنه قَسَّم مَنْ ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنس . قال : " وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يفهمه فضلاً عَمَّنْ يعرفه " .
وقوله : { أو } الظاهرُ أنها للتخيير ، وهو واضحٌ على القول بأن معنى " من غيركم " . من غير أقاربكم من المسلمين ، يعني الموصي مخيِّرٌ بين أَنْ يُشْهِد اثنين من أقاربه أو من الأجانبِ المسلمين ، وقيل : " أو " للترتيب أي : لا يُعْدَلُ عن شاهدَيْن منكم إلا عند فَقْدِهما ، وهذا لايجيء إلا إذا قلنا " من غيركم " : من غير أهل مِلَّتكم .
قوله : { إِنْ أَنتُمْ } " أنتم " مرفوعٌ محذوفٍ يفسِّره ما بعده وهي مسألة الاشتغال ، والتقديرُ : إنْ ضَرَبْتُم ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ، وهذا مذهبُ جمهور البصريين ، وذهب الأخفشُ منهم والكوفيون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد " إنْ " الشرطية كما أجازوه بعد " إذا " أيضاً ، ف " ضربتم " لا محلَّ له عند الجمهور لكونه مفسِّراً ، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش لكونه خبراً ، ونحوُه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [ التوبة : 6 ] ، { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] . وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ } ولكنَّ تقديرَ هذا الجوابِ يتوقف على خلافٍ في هذا الشرط : هل هو قيدٌ في أصلِ الشهادة أو قيدٌ في " آخران مِنْ غيركم " فقط ؟ بمعنى أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصية إلى أهلِ الذمةِ إلا بشرطِ الضربِ في الأرض وهو السفر . فإن قيل : هو شرطٌ في أصلِ الشهادةِ فتقديرُ الجوابِ : إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فليشهد اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم ، وإنْ كان شَرَطاً في العدول إلى آخَرَين من غير الملَّة فالتقدير : فأشْهِدُوا آخَرَيْن من غيركم ، أو فالشاهد آخران من غيركم ، فقد ظهر انَّ الدالَّ على جواب الشرط : إمَّا مجموعُ قوله : " اثنان ذوا عدل إلى آخره " على القولِ الأول ، وإمَّا " أو آخران من غيركم " فقط على القولِ الثاني .
والفاء في " فأصابتكم " عاطفةٌ هذه الجملةَ على نفس الشرط ، وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا } فيه وجهان : أحدُهما : أنها في محلِّ رفع صفةَ ل " آخران " وعلى هذا فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها ، فإنَّ قوله " تَحْبسونهما " صفةٌ لقوله " آخران " وإلى هذا ذهب الفارسي ومكي بن أبي طالب والحوفي وأبو البقاء وابن عطية وقد أوضح الفارسي ذلك بعبارةٍ خاصةٍ فقال : " تحبسونهما صفةُ ل " آخران " واعترض بقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } وأفاد الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة أو القرابة حَسَبَ اختلاف العلماء فيه إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغنى عن جواب " إنْ " لِما تقدَّم في قولِه " آخران من غيركم " قلت : فقد ظهر من كلامه أن يجعلُ الشرطَ قيداً في " آخران من غيركم " فقط لا قيداً في أصل الشهادة ، فتقديرُ الجوابِ على رأيه كما تقدم : " فاستشهدوا آخَرَين من غيركم " أو " فالشاهدان آخران من غيركم " .
والثاني : أنه لا محلَّ له لاستئنافِه ، وإليه ذهب الزمخشري قال : " فإنْ قلت : ما موقعُ قولِه : { تَحْبِسُونَهُمَا } ؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل : بعد اشتراطِ العدالة فيهما : فكيف نعمل إنْ ارتَبْنا فيهما ؟ فقيل : تَحْبِسونهما " . وهذا الذي ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصناعة ؛ لأنه يلزمُ في الأولِ الفصلُ بكلام طويل بين الصفةِ وموصوفِها ، وقال : " اشتراطِ العدالة " بناءً على مختاره في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : أو عَدْلان من الأجانب .
قال الشيخ : " في قوله : " إن أنتم ضربتم " إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، إذ لو جَرَى على لفظ " إذا حضَر أحدَكم الموتُ " لكان التركيب : إن هو ضرب في الأرض فاصابته ، وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنَّ " أحكم " معناه : إذا حضر كلَّ واحد منكم الموتُ " . وفيه نظرٌ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطاب الأول من قوله : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى آخره . وقال ابن عباس : " في الكلامِ حذفٌ تقديرُه : فأصابتكم مصيبةُ الموت وقد أشهدتموهما على الإِيصاءِ " . وعن سعيد بن جبير : تقديره " وقد أوصيتم " . قال بعضُهم : " هذا أَوْلى لأنَّ الوصِيَّ يحلف والشاهدَ لا يَحْلِفُ " . والخطابُ في " تحبسونهما " لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خوطب بإصابتِه الموتَ لأنه يتعذَّر ذلك فيه . و " من بعد " متعلق ب " تحبسونهما " ومعنى الحَبْسِ : المنعُ ، يقال : حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيل الله فهو مُحْبَسٌ وحبيس . ويقال لمصنعِ الماءِ : " حَبَسْ " لأنه يمنعه ، ويقال : " حَبَّست " بالتشديد ايضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل نحو : " حَبَّسْتُ الرجال " والأف واللام في " الصلاة " فيها قولان ، أحدهما : أنها للجنس أي : بعد أيِّ صلاة كانت . والثاني - وهو الظاهر- أنها للعهد ، فقيل : العصر ، وقيل غيرُ ذلك .
قوله : { فَيُقْسِمَانِ } في هذه الفاء وجهان ، أظهرهما : انها عاطفة هذه الجملةَ على جملةِ قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا } فتكون في محل رفع ، أو لا محلَّ لها حَسْبما تقدَّم من الخلاف .
والثاني : فاءُ الجزاءِ أي : جوابُ شرطٍ مقدرٍ . قال الفارسي : " وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لعطفِ جملة ، بل تجعلُه جزاءً كقوله ذي الرمة :
وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً *** فيبدو ، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بدا ، وكذا في الآية : إذا حَبَسْتموهما أقسما . وقال مكي نحوه ، فإنه قال : و " يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأن " تحسبونهما " معناه الأمر بذلك ، وهو جواب الأمر الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنه قل : إذا حبستموهما أَقْسَما " قلت : ولا حاجةَ داعية إلى شيء من تقديرِ شرطٍ محذوفٍ ، وأيضاً فإنه يحوج إلى حذفِ مبتدأ قبل قولِه { فَيُقْسِمَانِ } أي : فهما يُقْسمان ، وأيضاً ف " إنْ تحبسوهما " تقدَّم أنها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر ، والطلب لا يقع وصفاً ؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليّ فَخَرَّجَه النحويون على ان " يَحْسِر الماءُ تارة " جملةٌ خبرية ، وهي إن لم يكن فيها رابط فقد عُطِف عليها جملةٌ فيها رابط بالفاء السببية ، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتين شيئاً واحداً .
و " بالله " متعلِّقٌ بفعلِ القسم ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا معها لأنها أمُّ . الباب . وقوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } جواب القسمِ المضمرِ في " يُقْسِمان " فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به . وقوله : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } شرطٌ/ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه : إن ارتبتم فيهما فحلِّفوهما ، وهذا الشرط وجوابُه المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه ، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ فأُجيب سابقُهما ، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لدلالةِ جوابه عليه ؛ لأنَّ تلكَ المسألةَ شرطُها أن يكونَ جوابُ القسمِ صالحاً لأن يكون جوابَ الشرط حتى يَسُدَّ مسدَّ جوابه نحو : " واللّهِ إن تقم لأكرمنَّك " لأنك لو قَدَّرْتَ " إن تقم أكرمتك " صَحَّ ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسم ، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه ، ألا ترى أنَّ تقديره هنا : " إن ارتبتم حَلِّفوهما " ولو قَدًّرْته : إن ارتبتم فلا نشتري لم يَصِحَّ ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ وقد أُجيب سابقهما ، وحُذِفَ جواب الآخر وليس من تيك القاعدةِ . وقال الجرجان : " إنَّ ثم قولاً محذوفاً تقديرُه يٌقْسِمان بالله ويقولان هذا القولَ في أيمانِهما ، والعرب تُضْمِرُ القولَ كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 2324 ] أي : يقولون سلام عليكم " . ولا أدري ما حمله على إضمارِ هذا القولِ ؟
قوله : " به " في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ ، إحدُهما : أنها تعودُ على الله تعالى الثاني : أنها تعودُ على القسمِ . الثالث : - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى . وقال أبو البقاء " تعودُ على اللّهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنها قولٌ .
قلت : قوله " أو الحَلْف أو اليمين " لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ واحدٌ ، وكذلك قولُ مَنْ قال : إنه تعودُ على الله تعالى ، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً أي : لا نشتري بيمينِ الله أو قسمِه ونحوِه ، لأن الذاتَ المقدسة لا يُقال فيها ذلك . وقال مكي : " وقيل : الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها قولُ كما قال : { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فردَّ الهاءَ على المقسومِ لدلالة القسمة على ذلك " . والاشتراءُ هنا هل باقٍ على حقيقتِه أو يُراد به البيع ؟ قولان ، أظهرُهما الأولُ ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصبِ " ثمناً " وهو منصوبٌ على المفعولية ، قال الفارسيّ : وتقديره : لا نشتري به ذا ثمن ، ألا ترى انَّ الثمن لا يُشْترى ، وإنما يُشْترى ذو الثمن ، قال : " وليس الاشراءُ هنا بمعنى البيع وإنْ جاء لغةً ، لأنَّ البيعَ إبعادٌ عن البائعِ ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه التمسُّكُ به والإِيثارُ له على الحقِّ " . وقد نَقَل الشيخُ هذا الكلامَ بعينِه ولم يَعْزُه لأبي علي .
وقال مكي : " معناه ذا ثمن ، لأنَّ الثمن لا يُشْترى ، وإنما يُشْتَرى ذو الثمن ، وهو كقوله : { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً } [ التوبة : 9 ] أي ذا ثمن " . وقال غيرُه : " إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف " قال أبو البقاء : " ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به ، وقيل : التقدير : ذا ثمن " ، وقال بعضُهم : " لا نَشْتري : لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضٍ ناخذُه ، كقولِه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً }
[ آل عمران : 77 ] ، فمعنى { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } لا نأخذُ ولا نستبدِلُ ، ومَنْ باع شيئاً فقد اشترى ، ومعنى الآية : لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا . قال الواحدي : " ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي ، وهذا معنى قولِ القتيبي والجرجاني " .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الآية : 170 ] في البقرة من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ أو حاليةٌ ، وانَّ جملةَ الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدرةٍ كقوله : " أعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ " فكذا هنا تقديرُه : لا نَشْتري به ثمناً في كل حال ولو كانَ الحالُ كذا ، واسمُ " كان " مضمرٌ فيها يعودُ على المشهودِ له : أي : ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ .
قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ } الجمهورُ على رفعِ ميم " نكتُم " على أنَّ " لا " نافية ، والجملةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ فتكونُ ايضاً مقسماً عليها . والثاني : أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون الشهادة ، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي : " ولا نَكْتُمْ " على النهي ، وهذه القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ " لا " الناهية على فعلِ المتكلم قليلٌ ، ومنه .
إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ *** بها أبداً ما دامَ فيها الجَراضِمُ
والجمهورُ على " شهادة الله " بالإِضافة ، وهي مفعولٌ بها ، وأُضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمرُ بها وبحفظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ . وقرأ عليُّ أميرُ المؤمنين ونعيم بن ميسرة والشعبي في رواية : " شهادة الله " بتنوين شهادة ونصبِها ونصبِ الجلالة ، وهي واضحةٌ ، ف " شهادة " مفعول ثان ، والجلالةُ نصبٌ على التعظيمِ وهي الأول . والأصلُ : ولا نكتُم اللّهَ شهادةً ، وهو كقولِه : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وإنما قُدَِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها ، فإنها المحدِّثُ عنها . وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراوي - وهو أن تكون الجلالةُ نصباً على إسقاطِ حرفِ القسم ، والتقديرُ : ولا نكتمُ شهادةً واللّهِ ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر نُصِب المقسُم به ، ولا حاجةَ إليه لأنه يَسْتدعي حذفَ المفعولِ الأولِ للكتمان ، أي : ولا نكتمُ أحداً شهادةً والله ، وفيه تكلفٌ ، وإليه ذهبَ أبو البقاء أيضاً قال : " على أنه منصوبٌ بفعلِ القسم محذوفاً " .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري : " شهادةً " بالتنوين والنصب ، " الله " بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين ، وهي عوضٌ من حرفِ القسمِ المقدَّرِ ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ ؟ وقرأ الشعبي في رواية وغيره : " شهادة " بالهاء ويقف عليها ، ثم يَبْتدئ " آللّهِ " بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم ، وجَرِّ الجلالة ، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول : " يا زيدُ آللّهِ لأفعلن " ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ثلاثةٌ : ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه ، نحو : " ها اللَّهِ " ويجوزُ مع " ها " قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها . وهل الجرُّ بالحرف المقدر أو بالعوض ؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً ، ولو قال قائل : إن قولَهم " أللّهِ لأفعلنَّ " بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه . فإن قيل : همزةُ الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل ، وحينئذ إمَّا : أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً ، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم . فالجواب : أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ الوصلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام فرقاً بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجر في الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجةَ إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدَلةً أو مُسَهَّلَةً ، فعلى هذا قراءة : الله وآلله بالقصر والمد تحتمل الاستفهامَ ، وهو تخريجٌ حسن .
قال ابن جني في هذه القراءة : " الوقفُ على " شهادة " بسكون الهاء واستئنافُ القسم ، حسن ، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول " ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من غير مَدِّ وجرِ الجلالة - عن أبي بكر عن عاصم وقرئ : شهادةً اللّهِ " بنصب الشهادة منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير عوضٍ منه بقطعٍ ولا همزةِ استفهام ، وهو مختصٌّ بذلك .
وقوله تعالى : { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة ، ولذلك أتوا ب " إذَنْ " المؤذنة بالجزاء والجواب . وقرأ الجمهور : { لمن الآثمين } من غير نقل ولا إدغام . وقرأ ابن محيصن والأعمش : { لَمِلاَّثِمين } بإدغام نون " من " في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في " آثمين " فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ : { عَاداً الأُولَى } بالإِدغام ، وهناك إن شاء الله يأتي تحقيق ذلك وبه القوة .