الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (109)

قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ } : في نصبِه أحدَ عشرَ وجهاً ، أحدها : أنه منصوبٌ ب " اتقوا " أي : اتقوا اللَّهَ في يومِ جَمْعِه الرسلَ قاله الحوفي ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لأنَّ أمرَهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون ، إذ ليس بيومِ تكليفٍ وابتلاء ، ولذلك قال الواحدي : ولم " يُنْصَب اليوم الظرفِ للاتقاء ، لأنهم لم يُؤْمَروا بالتقوى في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله : { وَاتَّقُواْ يَوْماً } [ البقرة : 48 ] . الثاني : أنه منصوب ب " اتقوا " مضمراً يدل عليه " واتقوا الله " قال الزجاج : " هو محمول على قوله : " واتقوا الله " ثم قال : " يوم يجمع " أي : واتقوا ذلك اليوم " ، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاء في الأول على الاتقاء في هذه الآية ، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء لأنهم لم يُؤْمروا بالاتقاء في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] . الثالث : أنه منصوب بإضمار " اذكروا " الرابع : بإضمار " احذروا " الخامس : أنه بدل اشتمال من الجلالة . قال الزمخشري : " يوم يجمع " بدلٌ من المنصوب في " واتقوا الله " وهو من بدلِ الاشتمال كأنه قيل : واتقوا الله يوم جَمْعِه " انتهى ، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليس بجيدٍ ، لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى أيِّ مذهبٍ فَسَّرناه من مذاهبِ النحويين في الاشتمالَ ، والتقديرُ : واتقوا عقابَ الله يومَ يجمعُ رسلَه ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه ، أو زمانه مشتملٌ عليه ، أو عاملُها مشتملٌ عليهما على حَسَبِ الخلافِ في تفسيرِ البدلِ الاشتمالي ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة . واستبعد الشيخ هذا الوجهَ بطولِ الفصلِ بجملتين ، ولا بُعْدَ فإنَّ هاتين الجملتين من تمامِ معنى الجملةِ الأولى . السادسُ : أنَّه منصوبٌ ب " لا يَهْدي " قال الزمخشري وأبو البقاء . قال الزمخشري : " أي : لا يهديهم طريقَ الجنة يومئذ كما يُفْعَلُ بغيرهم " . وقال أبو البقاء : " أي : لا يهديهم في ذلك اليومِ إلى حُجَّة أو إلى طريق الجنة " .

السابع : أنه مفعولٌ به وناصبُه " اسمعوا " ولا بد من حذف مضاف حينئذ لأنَّ الزمان لا يسمع ، فقدَّره أبو البقاء : " واسمعوا خبر يوم يجمع " ولم يذكر أبو البقاء غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما . وفي نصبِه ب " لا يَهْدي " نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا ، أعني المحكومَ عليهم بالفسق ، وفي تقدير الزمخشري " لايهديهم إلى طريق الجنة " نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى ، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره ، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه ، وأما في دار التكليف فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة .

الثامن : أنه منصوبٌ ب " اسمعوا " قاله الحوفي ، وفيه نظرٌ لأنهم ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي . التاسع : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي : يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكاتَ ، قاله الزمخشري . العاشر : قلت : يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإِعمال ، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك ، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عواملَ وهي " اتقوا " و " اسمعوا " و " لا يَهْدي " ، ويكون من إعمال الأخير لأنه قد حُذِفَ من الأَوَّلِين ولا مانع يمنع من الصناعة ، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهر نصب " يوم " بشيء من الثلاثة لأنَّ المعنى يأباه ، وإنما أجَزْتُ ذلك جرياً على ما قالوه وجَوَّزوه ، لاسيما أبو البقاء فإنه لم يذكر غيرَ كونِه منصوباً ب " اسمعوا " أو ب " لايهدي " ، و كذا الحوفي جَوَّز أن ينتصب ب " اتقوا " وب " اسمعوا " الحادي عشر : أنه منصوب ب " اقولوا : لا علمَ لنا " أي : قال الرسل يوم جمعهم وقول الله لهم ماذا أُجبتم . واختاره الشيخ على جميع ما تقدم ، قال : " وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ } [ البقرة : 30 ] وهو وجه حسن .

قوله : { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فيه أربعةُ أقوال ، أحُدها : أنَّ " ماذا " بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده ، والتقديرُ : أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم . قال الزمشخري : " ماذا أُجِبْتُم " منتصبٌ انتصابَ مصدرهِ على معنى : أيَّ إجابة أُجِبْتُم ، ولو أُريد الجوابُ لقيل : بماذا أُجبتم " أي : لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل : بماذا . ومِنْ مجيء " ماذا " كلِّه مصدراً قوله :

ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما *** لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ رَقَدا

الثاني : أن " ما " استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء و " ذا " خبره ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي لاستكمال الشرطين المذكورين ، و " أُجِبْتُم " صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما الذي أُجِبْتم به ، فَحَذَف العائدَ ، قاله الحوفي . وهذا لايجوزُ ، لأنه لا يجوزُ حَذْفُ العائدِ المجرورِ إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائدِ ، وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهما : نحو : " مررتُ بالذي مررتَ " أي به ، وهذا الموصولُ غير مجرورٍ ، لو قلت : " رأيت الذي مررتَ " أي : مررتَ به لم يجز ، اللهم إلا أَنْ يُدَّعى حَذْفُه على التدريج بأن يُحَذَفَ حرفُ الجر فيصلَ الفعل إلى الضمير فيحذفَ كقوله :

{ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] أي : في أحد أوجهه ، وقوله : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] في أحد وجهيه ، وعلى الجملةِ فهو ضعيف . الثالث : أنَّ " ما " مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ ، لَمَّا حُذِف بقيت في محل نصب ، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه قال : " ماذا " في موضعِ نصبٍ ب " أُجِبْتُم " وحرفُ الجرِّ محذوفٌ ، و " ما " و " ذا " هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ " ما " بمعنى الذي لأنه لا عائدَ هنا ، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ " قلت : أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه ، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً ، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقولِه :

فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأُخْفي الذي لولا الأَسَى لقَضاني

وقوله :

تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم تحقيق ذلك واستنثاءُ المطَّرِد منه ، فقد فَرَّ من ضعيفٍ ووقع في أضعفَ منه . الرابع : قال ابن عطية " " معناه : ماذا أجابت به الأمم " فَجَعَل " ماذا " كنايةً عن المجابِ به لا المصدرٍ ، وبعد ذلك ، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أَنْ يكونَ مثلَ ما تقدَّم حكايتُه عن الحوفي في جَعْلِه " ما " مبتدأً استفهاميةً ، و " ذا " خبره على أنها موصولةٌ ، وقد تقدَّم التنبيه على ضعفه ، ويُحْتمل أن يكون " ماذا " كلُّه بمنزلة اسمِ استفهام في محلِّ رفع بالابتداء ، وأُجِبْتُم " خبرُه ، والعائدُ محذوفٌ كما قَدَّره هو ، وهو أيضاً ضعيفٌ ، لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأِ وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها ، لو قلت : " زيدٌ مررتُ " لم يجز ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ رُجِّح الأول .

والجمهور على " أُجِبْتم " مبنياً للمفعول ، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم ، رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة " أَجَبْتم " مبنياً للفاعل والمفعول محذوف أي : مذا أَجَبْتم أممكم حين كَذَّبوكم وآذَوْكم ، وفيه توبيخٌ للأمم ، وليست في البلاغةِ كالأولى .

وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } كقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ الآية : 32 ] في البقرة . والجمهورُ على رفع " عَلاَّمُ الغيوب " وقرئ بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي : الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم " إنَّ " قال : " وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله " إنك أنت " أي : إنك الموصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيرِه ، ثم انتصَبَ " عَلاَّم الغيوب " على الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم " إنَّ " قال الشيخ : " وهو على حَذْفِ الخبر لفهم المعنى ، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله " إنك أنتَ " اي : إنَّك الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره " ثم قال : " قال الزمخشري : ثم انتصب فذكره إلى آخره " فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر ل " إنك " خبراً محذوفاً ، والزمخشري لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه ، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه ، وهذا المعنى هو الذي تقضيه البلاغةُ والذي غاص [ عليه أبو القاسم ، لا ماقدَّره ] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به من عنده .

ويعني بالاختصاص النصبَ على المدحِ لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء ، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً ، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله " إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم " إنَّ " بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب ، والضمير لا يوصف مطلقاً عند البصريين ، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإِبهامه في قولهم " مررت به المسكينِ " مع إمكان تأويله بالبدل وهو ردٌّ واضح ، على أنه يمكن أن يقال أرادَ بالصفةِ البدلَ وهي عبارة سيبويه ، يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل فله أُسْوَةٌ بإمامه واللازم مشترك ، فما كان جواباً عن سيبويه كان جواباً له ، ولكن يبْقَى فيه البدلُ بالمشتق وهو اسهلُ من الأول . ولم أَرَهُم خرَّجُوها على لغة مَنْ ينصِبُ الجزأين ب " إنَّ " وأخواتِها كقولِه :

إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزاً ***

[ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . إنَّ حُرَّا سَنا أُسْدا

[ وقوله ] :

ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ وقوله ] :

كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا *** قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا

ولو قيل به لكان صواباً

و " عَلاَّمُ " مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً ، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة ؛ لأن إضافَته غيرُ محضة وموصوفَه معرفةٌ . والجمهور على ضمِّ العين من " الغيوب " وهو الأصل ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها ، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو : " البيوت والجيوب والعيون والشيوخ " وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر

{ الْبُيُوتَ } [ الآية : 189 ] ، وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله تعالى . وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعِه ، وإن أريد به الشيء الغائب ، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح .