الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

قوله تعالى : { وَيُرْسِلُ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل ، لأنه في معنى يفعل ، والتقدير : وهو الذي يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله ، ومثلُه عند بعضهم : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] قالوا : فأقرضوا عطف على " مصدقين " الواقعِ صلةً لأل ، لأنه في معنى : إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا ، وهذا ليس بشيء ، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن " وأقرضوا " من تمام صلة أل في " المصِّدِّقين " وقد عطف على الموصول قوله " المصدقات " وهو أجنبي ، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته . وأمَّا قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] فيقبضن في تأويل اسم أي : وقابضات . ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } [ الأنعام : 95 ] وقوله :

فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ *** ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا

والثاني : أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ } والثالث : أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله : يتوفَّاكم ويعلم ، وما بعده ، أي : وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل . الرابع : أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة في محل نصب على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أظهرهما : أنه الضميرُ المستكنُّ في " القاهر " والثاني : أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف ، كذا قال أبو البقاء ، ونقله عن الشيخ وقال : " وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب " وقولهما " الضمير الذي في الظرف " ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه " فوق عباده " ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً ؟

والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن " فوق عباده " فيه خمسة أوجه ، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي : كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من الخبر أو حالاً ، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل " يُرْسِلُ " لأن المضارعَ المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة . والخامس : أنها مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك ، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني .

وقوله : { عَلَيْكُم } يحتمل ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلق بيرسل ، ومنه :

{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } [ الرحمن : 35 ] { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ]

{ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] إلى غير ذلك . والثاني : أنه متعلق ب " حَفَظَة " . يقال : حَفِظْتُ عليه عمله ، فالتقدير : ويُرْسل حَفَظَة عليكم . قال الشيخ : " أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }

[ الانفطار : 10 ] كما تقول : حَفِظْتُ عليك ما تعمل " فقوله : " كما قال : إن عليكم لحافظين " تشبيه من حيث المعنى لا أن " عليكم " تعلق بحافظين ؛ لأن " عليكم " هو الخبر ل " إن " فيتعلق بمحذوف .

والثالث : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من " حفظة " إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها .

قال أبو البقاء : " عليكم " فيه وجهان أحدهما : هو متعلِّق بيرسل ، والثاني : أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفس " حَفَظة " والمفعول محذوف أي : يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم . والثاني : أن يكون صفةً ل " حَفَظة " قُدِّمَتْ فصارت حالاً " انتهى . قوله : " المفعول محذوف " يعني مفعول " حفظة " إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره ، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه ، و " حَفَظَة " إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف ، تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حفظة ، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها ، أعني كونه معتمداً على موصوف .

و " حَفَظَة " جمع حافظ ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام ، لعاقل مذكر ك " بارّ " و " بَرَة " و " فاجِر " و " فَجَرة " و " كامل " و " كَمَلة " ، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم : غراب ناعق وغربان نَعَقَه . وتقدَّم مثل قوله : " حتى إذا جاء "

قوله : { تَوَفَّتْهُ } قرأ الجمهور : { توفَّتْه } ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع . وقرأ حمزة : { توفَّاه } من غير تاء تأنيث ، وهي تحتمل وجهين أظهرهما : أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين ، أحدهما : كونه تأنيثاً مجازياً ، والثاني : الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول . والثاني : أنه مضارع ، وأصله : تتوفاه بتاءين ، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك " تَنَزَّلُ " وبابه . وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف . وقرأ الأعمش : { يتوفَّاه } مضارعاً بياء الغَيْبة ، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل ، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل ، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً . وقال أبو البقاء : " وقرئ شاذاً : { تتوفَّاه } على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء .

قوله : { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أظهرهما : أنها حال من " رسلنا " والثاني : أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة ، والجمهور على التشديد في " يُفْرِّطون " ومعناه لا يُقَصِّرون . وقرأ عمرو بن عبيد والأعرج : " يُفْرِطون " مخففاً من أفرط ، وفيها تأويلان أحدهما : أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به . قال الزمخشري : " فالتفريط : التواني والتأخير عن الحدِّ ، و الإِفراط : مجاوزة الحدِّ أي : لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون " والثاني : أن معناه لا يتقدمون على أمر الله ، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم . وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال : " معنى لا يُفْرِطون : لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي : يَسْبقهم ويفوتهم " وقال أبو البقاء : " ويُقرأ بالتخفيف أي : لا يزيدون على ما أُمِروا به " وهو قريب مِمَّا تقدم .