الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (63)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ } : قرأ السبعة هذه مشددة ، { قل الله ينجيكم } : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة كالأولى ، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من " أنجى " حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو ، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما ، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية ، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى ، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف ، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة ، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] . والاستفهام للتقرير والتوبيخ ، وفي الكلام حذف مضاف أي : مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها ، والظلمات كناية عن الشدائد .

قوله : { تَدْعُونَهُ } في محل نصب على الحال : إمَّا من مفعول " ينجيكم " وهو الظاهر ، أي : يُنَجيكم داعين إياه ، وإمَّا من فاعله أي : مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم .

قوله : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } يجوز فيهما وجهان ، أحدهما : أنها مصدران في موضع الحال أي : تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين . والثاني : أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله : قَعَدْتُ جلوساً . وقرأ الجمهور : { خُفْية } بضم الخاء . وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة ، والأُسوة والإِسوة . وقرأ الأعمش : { وخيفة } كالتي في الأعراف وهي من الخوف ، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها ، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه " تضرُّعاً " من المعنى .

قوله : { لَّئِنْ أَنجَانَا } الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها ، ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول ، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل " تَدْعُونه " أي : تدعونه قائلين ذلك ، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم . وقرأ الكوفيون : " أَنْجانا " بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله : { تَدْعُونَهُ } والباقون " " أَنْجَيْتنا " بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء ، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه ، فإنَّ في مصاحف الكوفة : " أنجانا " ، وفي غيرِها : " أَنْجَيْتنا " .

قوله : { مِنْ هَذِهِ } متعلِّقٌ بالفعل قبله ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، و " هذه " إشارةٌ إلى الظلمات ؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة ، وكذلك في " منها " تعود على الظلمات لِما تقدم .