الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

قوله تعالى : { لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } : الضميرُ المنصوبُ الظاهرُ عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرورُ عائد على الآيات . وقيل : المنصوبُ يعودُ على الكفر المفهوم مِمَّا سبق ، والمجرور على الآيات أيضاً ، أي : لَرَفَعْنا الكفر بما ترى من الآيات . وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على " الذي " . والمراد بالرَّفْع الأخذُ كما تقول : رُفِع الظالمُ ، أي قُلِعَ وأُهْلِكَ ، أي : لأهلكناه بسبب المعصية . وهذه أقوال بعيدة ، وإن كانت مرويةً عن مجاهد وغيره . ولا يظهر الاستدراك إلا على الوجه الأول . ومعنى أخلد ، أي : ترامى بنفسه . قال أهل العربية : " وأصله من الإِخلاد وهو الدوامُ واللزوم ، فالمعنى : لَزِم المَيْلَ إلى الأرض ، قال مالك بن نويرة :

بأبناء حَيٍّ مِنْ قبائل مالك *** وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلدوا

قوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ } هذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين . قال بعضهم : " وأما الجملة الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضعَ الحال فلا يقال : " جاء زيد إنْ يَسْأَل يُعط " على الحال ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبراً عن ضمير ما أريد جَعْلُ الحال منه فيقال : جاء زيد وهو إن يسأل يُعط ، فتكون الجملة الاسمية في الحال . نعم قد أوقعوا الجملة الشرطية موقعَ الحال ، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط ، وتلك الجملة لا تخلو : مِنْ أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يُعطف ، فالأول يستمرُّ فيه تَرْكُ الواو نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يَبْقَيان على معنى الشرط ، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] ، والثاني لا بد فيه من الواو نحو : أتيتك وإن لم تأتني ، لأنه لو تركْتَ الواوَ فقيل : أتيتُك إن لم تأتِني لالتبس . إذا عُرِف هذا فقوله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول لأنَّ الحَمْل عليه والترك نقيضان " .

والكلب : يجمع في القلة على أكْلُب ، وفي الكثرة على كِلاب ، وشذُّوا فجمعوا أكلباً على أكالب ، وكِلاباً على كِلابات ، وأمَّا كَلِيب فاسم جمع كفريق لا جمع قال طرفة :

تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها *** رجالٌ فبذَّت نبلَهم وكليبُ

وتقدَّمت هذه المادة في المائدة . ويقال : لَهَثَ يَلْهَث بفتح العين في الماضي والمضارع لَهَثَاً ولُهْثاً بفتح اللام وضمها وهو خروجُ لسانه في حال راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان فلا يَلْهَثُ إلا إذا أعيا أو عطش . والذي يَظْهر أن هذه الجملةَ الشرطيَة لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مفسِّرة للمثَل المذكور ، وهذا معنى واضح كما قالوا في قوله تعالى { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } فإنَّ الجملةَ من قوله " خَلَقَه من تراب " مفسرةٌ لقولِه تعالى :

{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .

قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ } يجوز أن يُشارَ ب " ذلك " إلى صفةِ الكلب ، ويجوز أن يُشارَ به إلى المنسلخِ من الآيات أو إلى الكلب . وأداةُ التشبيهِ محذوفةٌ من ذلك ، أي : صفة المنسلخ أو صفة الكلب مثل الذين كذَّبوا . ويجوز أن تكون المحذوفةُ من مثَل القوم ، أي : ذلك الوصف وهو وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل القوم .