البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

قال ابن عباس : يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى قوله بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق ؟ ( قلت ) : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة انتهى .

وكأنه قد شرح قوله : يبغون بأنهم يفسدون ، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى .

قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد .

وقال الأصمعي : بغي الجرح ترقي إلى الفساد ، وبغت المرأة فجرت انتهى .

ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق ، وطلب بغير حق .

ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال : أكد ذلك بقوله بغير الحق .

وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا ، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي ، وأنها كما قال سيبويه : حرف .

ومذهب غيره أنها ظرف ، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو .

والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم ، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي ، والخطاب بيا أيها الناس ، قال الجمهور : لأهل مكة .

والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا ، ويحتمل كما قالوا : العموم ، فيندرج أولئك فيهم ، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ .

ومعنى على أنفسكم .

وبال البغي عليكم ، ولا يجني ثمرته إلا أنتم .

فقوله : على أنفسكم ، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم ، فيتعلق بمحذوف .

وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص ، وابن أبي إسحاق ، وهارون ، عن ابن كثير : على أنه مصدر في موضع الحال أي : متمتعين ، أو باقياً على المصدرية أي : يتمتعون به متاع ، أو نصباً على الظرف نحو : مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا .

وكل هذه التوجيهات منقولة .

والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي : كائن على أنفسكم ، ولا ينتصبان ببغيكم ، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر ، وهو غير جائز .

وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف .

وأجاز النحاس ، وتبعه الزمخشري ، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله : بغيكم ، كما تعلق في قوله ، فبغى عليهم ، ويكون الخبر متاع إذا رفعته .

ومعنى على أنفسكم : على أمثالكم .

والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا .

وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً : متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه ، ونصب الحياة .

وقال سفيان بن عيينة : في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا .

وقرأ فرقة : فينبئكم بالياء على الغيبة ، والمراد الله تعالى .