{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها ، وأجاب دعاءهم ، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم . بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين ، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر . وإذا في { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } هي الفجائية ، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق . والبغي : هو الفساد ، من قولهم بغى الجرح : إذا ترامى في الفساد ، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض ، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق ، بل لا يكون إلا بالباطل ، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم ، بل تمرّداً وعناداً ؛ لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة .
قوله : { يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته . قرأ ابن إسحاق ، وحفص ، والمفضل بنصب متاع ، وقرأ الباقون بالرفع . فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة : أي بغيكم وبال على أنفسكم ، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره ، ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً ، وقيل : إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج : أي زمن متاع الحياة الدنيا ، وقيل : هو مفعول له : أي لأجل متاع الحياة الدنيا ، وقيل منصوب بنزع الخافض : أي كمتاع ؛ وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول : أي ممتعين ، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب .
وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ : أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ، ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر ، والتقدير : إنما بغيكم على أمثالكم ، والذين جنسهم جنسكم ، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها ، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه : أبناء جنسهم ، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة ؛ وقيل : ارتفاع متاع على أنه خبر ثان ؛ وقيل : على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هو متاع . قال النحاس : على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعاً بالابتداء ، وخبره متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم مفعول البغي ، ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم ، ويضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا . انتهى . وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع ، بما يطول به البحث في غير طائل . والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم ، فالمعنى ؛ أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي ، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه ، وإن جعل الخبر متاع ، فالمراد : أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال ، قريب الاضمحلال ، كسائر أمتعة الحياة الدنيا ، فإنها ذاهبة عن قرب ، متلاشية بسرعة ، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى . ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة ، مع وعيد شديد فقال : { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } وتقديم الخبر للدلالة على القصر ، والمعنى : أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله ، فيجازي المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه { فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ ، والمراد بذلك : المجازاة ، كما تقول لمن أساء : سأخبرك بما صنعت ، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.