فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها ، وأجاب دعاءهم ، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم . بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين ، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر . وإذا في { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } هي الفجائية ، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق . والبغي : هو الفساد ، من قولهم بغى الجرح : إذا ترامى في الفساد ، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض ، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق ، بل لا يكون إلا بالباطل ، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم ، بل تمرّداً وعناداً ؛ لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة .

قوله : { يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته . قرأ ابن إسحاق ، وحفص ، والمفضل بنصب متاع ، وقرأ الباقون بالرفع . فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة : أي بغيكم وبال على أنفسكم ، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره ، ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً ، وقيل : إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج : أي زمن متاع الحياة الدنيا ، وقيل : هو مفعول له : أي لأجل متاع الحياة الدنيا ، وقيل منصوب بنزع الخافض : أي كمتاع ؛ وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول : أي ممتعين ، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب .

وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ : أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ، ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر ، والتقدير : إنما بغيكم على أمثالكم ، والذين جنسهم جنسكم ، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها ، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه : أبناء جنسهم ، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة ؛ وقيل : ارتفاع متاع على أنه خبر ثان ؛ وقيل : على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هو متاع . قال النحاس : على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعاً بالابتداء ، وخبره متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم مفعول البغي ، ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم ، ويضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا . انتهى . وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع ، بما يطول به البحث في غير طائل . والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم ، فالمعنى ؛ أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي ، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه ، وإن جعل الخبر متاع ، فالمراد : أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال ، قريب الاضمحلال ، كسائر أمتعة الحياة الدنيا ، فإنها ذاهبة عن قرب ، متلاشية بسرعة ، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى . ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة ، مع وعيد شديد فقال : { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } وتقديم الخبر للدلالة على القصر ، والمعنى : أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله ، فيجازي المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه { فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ ، والمراد بذلك : المجازاة ، كما تقول لمن أساء : سأخبرك بما صنعت ، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد .

/خ23