مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق . قال ابن عباس : يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم . قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي : يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترقى إلى الفساد ، وبغت المرأة إذا فجرت ، قال الواحدي : أصل هذا اللفظ من الطلب .

فإن قيل : فما معنى قوله : { بغير الحق } والبغي لا يكون بحق ؟

قلنا : البغي قد يكون بالحق ، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة .

ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ الأكثرون { متاع } برفع العين ، وقرأ حفص عن عاصم { متاع } بنصب العين ، أما الرفع ففيه وجهان : الأول : أن يكون قوله : { بغيكم على أنفسكم } مبتدأ ، وقوله : { متاع الحياة الدنيا } خبرا . والمراد من قوله : { بغيكم على أنفسكم } بغي بعضكم على بعض كما في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها . والثاني : أن قوله { بغيكم } مبتدأ ، وقوله : { على أنفسكم } خبره ، وقوله : { متاع الحياة الدنيا } خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا . وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول : إن قوله : { بغيكم } مبتدأ ، وقوله : { على أنفسكم } خبره ، وقوله : { متاع الحياة الدنيا } في موضع المصدر المؤكد ، والتقدير : تتمتعون متاع الحياة الدنيا .

المسألة الثانية : البغي من منكرات المعاصي . قال عليه الصلاة والسلام : « أسرع الخير ثوابا صلة الرحم ، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة » وروى « ثنتان يجعلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة*** فأربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل*** لاندك منه أعاليه وأسفله

وعن محمد بن كعب القرظي : ثلاث من كن فيه كن عليه ، البغي والنكث والمكر ، قال تعالى : { إنما بغيكم على أنفسكم } .

المسألة الثالثة : حاصل الكلام في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة ، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها { ثم إلينا } أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم { مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } في الدنيا ، والإنباء هو الإخبار ، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت .