البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

الجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله ، وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج .

ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل .

وإن تعجب قال ابن عباس : وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين ، فهذا أعجب .

وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب .

قال الزمخشري : وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى .

وليس مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث ، فاتحد الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن من قولهم : أءذا كنا الآية .

وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء .

ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة ، كما قال تعالى : { وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده } وهو أهون عليه أي : هين عليه .

وقال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً .

ويحتمل اللفظ منزعاً آخر : إن كنت تريد عجباً فهلم ، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى .

واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات .

وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً ، والثاني خبراً ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع .

وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ : { إننا لمخرجون } وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً ، والثاني استفهاماً ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نوناً كالكسائي .

وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه .

وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره والله أعلم : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب .

وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك .

كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضاً ، وهو كونه عاملاً فيما بعده .

وقال أبو البقاء : وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى .

وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلاً كذبح ، وفعلاً كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه .

وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول .

وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن أءذا معمول لقولهم محكى به .

وقال الزمخشري : أءذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى .

هذا إعراب متكلف ، وعدول عن الظاهر .

وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر .

أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء .

ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم .

والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل .

وقيل : يحتمل أن يكون مجازاً أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } وكما قال الشاعر :

لهم عن الرشد أغلال وأقياد *** وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر .