البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

الكَل : الثقيل ، وقد يسمى اليتيم كلاًّ لثقله على من يكفله .

وقال الشاعر :

أكول لمال الكل قبل شبابه *** إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضاً الذي لا ولد له ولا والد ، والكل العيال ، والجمع كلول .

وضرب الله مثلاً رجلين أي قصة رجلين .

قال الزمخشري : وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع .

والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم .

وهو كلٌّ على مولاه أي : ثقيل ، وعيال على من يلي أمره ويعوله .

أينما يوجهه : حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح .

هل يستوي هو ، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة ، فهو يأمر الناس بالعدل ، وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة ، ودين قويم انتهى .

وقال ابن عباس : أحدهما أبكم مثل للكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن .

وقال قتادة : هذا مثل لله تعالى ، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء ، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة .

وعن قتادة أيضاً وغيره : هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى ، وهذا ليس كذلك لأنه قال : مثلاً رجلين ، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية ، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه ، ثم قيل : هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، وهذا الناطق : ففي ذكر استوائهما أيضاً دليل على حذف المقابل .

ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف ، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق ، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة ، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع ، وليس بكالّ على أحد .

وقد تقرر في بداية العقول أنّ الأبكم العاجز لا يكون مساوياً في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية ، فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساوياً لرب العالمين في المعبودية أحرى وأولى .

وكما قلنا في المثل السابق : لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل ، فكذلك هنا ، فتعيين الأبكم بأبي جهل ، والآمر بالعدل : بعمار ، أو بأبيّ بن خلف ، وعثمان بن مظعون ، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح إسناده .

وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، وابن وثاب ، ومجاهد ، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنياً ، وفاعله ضمير يعود على مولاه ، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه .

ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الأبكم ، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه ، كان المعنى : أينما يتوجه .

وعن عبد الله أيضاً : توجهه بهاءين ، بتاء الخطاب ، والجمهور بالياء والهاءين .

وعن علقمة وابن وثاب ، وطلحة ، يوجه بهاء ، واحدة ساكنة ، والفعل مبني للمفعول .

وعن علقمة ، وطلحة : يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة .

قال صاحب اللوامح : فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف ، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف ، أو لم يرد به الشرط ، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه ، وقد حذف منه ضمير المفعول به ، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو : يوم يأت .

وإذا يسر انتهى .

ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام .

وقال أبو حاتم : هذه القراءة ضعيفة ، لأن الجزم لازم انتهى .

والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية ، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفاً ، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين ، ويكون معنى يوجه يتوجه ، فهو فعل لازم لا متعد .