البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

{ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } : مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله غيره وهو لا يجلب نفعاً ولا ضراً لنفسه ولا لعابده ، ضرب لهم مثلاً قصة عبد في ملك غيره ، عاجز عن التصرف ، وحر غني متصرف فيما آتاه الله .

فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ، ومشتركين في الإنسانية ، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره ، مع تباين الأوصاف .

وأنّ موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه ، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره .

قال مجاهد : هذا مثل لله وللأصنام .

وقال قتادة : للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة ، ومن رزقناه المؤمن .

وقال ابن جبير : مثل للبخيل والسخي انتهى .

ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر ، خصص بمملوك .

ولما كان المملوك قد يكون له تصرف وقدرة كالمأذون له والمكاتب ، خصص بقوله : لا يقدر على شيء ، والمعنى : على شيء من التصرف في المال ، لأنه يقدر على أشياء من حركاته : كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، وغير ذلك .

والظاهر كون ومن موصولة أي : والذي رزقناه ، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر .

وقال أبو البقاء : موصوفة .

قال الزمخشري : الظاهر أنها موصوفة كأنه قال : وحراً رزقناه ليطابق عبداً ، ولا يمتنع أن تكون موصولة .

وقال الحوفي : مَن بمعنى الذي ، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصاف متباينة تعيينهما ، بل ما روي في تعيينهما من أنهما : عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو جهل ، لا يصح إسناده .

وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين ، لأن مَن يحتمل أن يراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع ، وكأنه قيل : عبداً مملوكاً .

والملاك المرزوقون المنفقون .

ويحتمل أن يراد بعبداً مملوكاً الجنس ، فيصلح عود الضمير جمعاً عليه ، وعلى جنس الأغنياء .

ويحتمل أن يعود على العبيد والأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر ، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما .

قل : الحمد لله ، الظاهر أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .

وقيل : يحتمل أن يكون خطاباً لمن رزقه الله ، أمره أن يحمد الله على أنّ ميزه بهذه القدرة على ذلك الضعيف .

وقال ابن عطية : الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل ، وعلى إذعان الخصم له كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم تبنى أنت عليه ، قولك : الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا : هل يستوون ، فكأن الخصم قال له : لا ، فقال : الحمد لله ظهرت الحجة انتهى .

وقيل : الحمد لله أي : هو المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها ، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق .

وقال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد .

والظاهر نفي العلم عن أكثرهم ، لأنّ منهم من بان له الحق ورجع إليه ، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون .

وقيل : المراد به العموم أي : بل هم لا يعلمون .

ومتعلق يعلمون محذوف ، إما لأنّ المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه ، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوال التي سببها قوله الحمد لله .