البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (77)

اللمح : النظر بسرعة ، لمحه لمحاً ولمحاناً .

ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض ، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه .

والظاهر اتصاله بقوله : { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض ، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب ، والمعنى بهذا الإخبار : أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما : العلم المحيط بالمغيبات ، والقدرة البالغة التامّة .

ومن ذكر أنّ قوله : ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى ، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة ، فبين ذلك بهذه الجملة .

قيل : والغيب هنا ما لا يدرك بالحس ، ولا يفهم بالعقل .

وقال المفضل : ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه .

وقيل : هو ما في قوله : { إن الله عنده علم الساعة } وقال الزمخشري : أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم .

قيل : لما كانت الساعة آتية ولا بد ، جعلت من القرب كلمح البصر .

وقال الزجاج : لم يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي : يقول للشيء كن فيكون .

وقيل : هذا تمثيل للقرب كما تقول : ما السنة إلا لحظة .

وقال الزمخشري : هو عند الله وإن تراخى ، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه : كلمح البصر ، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله : { ويستعجلونك بالعذاب } { ولن يخلف الله وعده } { وأن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدُّون } أي هو عنده دان ، وهو عندكم بعيد .

وقيل : المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء ، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت أوحاه .

أنّ الله على كل شيء قدير ، فهو يقدر على أنْ يقيم الساعة ، ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات .

وقال ابن عطية : والمعنى على ما قال قتادة وغيره ، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر ؟ أو هي أقرب من ذلك ؟ فأو على هذا على بابها في الشك .

وقيل : هي للتخيير انتهى .

والشك والتخيير بعيدان ، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة ، فالشك مستحيل عليه .

ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم : خذ من مالي ديناراً أو درهماً ، أو في التكليفات كآية الكفارات : { والذين يظاهرون } وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } وقوله : { أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً } وهو تعالى قد علم عددهم ، ومتى يأتيها أمره ، كما علم أمر الساعة ، لكنه أبهم على المخاطب .

وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا .

وقال القاضي : هذا لا يصح ، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال : إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان ، وليس زمان تكليف .

والذي نقوله : إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة ، لا وقت الإتيان بها .

وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء ، ألا ترى في قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال ، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون .

وقال أبو عبد الله الرازي : لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة ، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة ، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة ، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء ، فلذلك قال : { أو هو أقرب } ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره ، ثم قال : أو هو أقرب تنبيهاً على ما ذكرناه ، وليس المراد طريقة الشك ، والمراد بل هو أقرب انتهى .

وفيه بعض تلخيص .

وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل ، هو قول الفراء ، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا .

أما أحدهما : فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق ، وأنه ليس هو المراد ، وهذا مستحيل هنا ، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق .

والثاني : أن يكون انتقالاً من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق ، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة ، والإخبار بالأقربية ، فلا يمكن صدقهما معاً .

وقال صاحب الغنيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة ، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم .

وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى :

قال له البرق وقالت له الريح*** جميعاً وهما ما هما

أأنت تجري معنا قال إن*** نشطت أضحكتكما منكما

أنا ارتداد الطرف قد فته*** إلى المدى سبقاً فمن أنتما