البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا} (75)

{ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } أي { لأذقناك } عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين .

فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟ قلت : أصله { لأذقناك } عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : { فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } يعني مضاعفاً ، فكان أصل الكلام { لأذقناك } عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل { ضعف الحياة وضعف الممات } كما لو قيل { لأذقناك } أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا .

وما نؤخره لما بعد الموت انتهى .

وجواب { لولا } يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله .

وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف : { تركن } بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب { شيئاً } على المصدر .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه .

وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرّجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت .

وقال ابن عباس : كان الرسول صلى الله عليه وسلم معصوماً ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى .

واللام في { لأذقناك } جواب قسم محذوف قبل { إذاً } أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في { لأذقناك } كالقول في { لاتخذوك } من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في { لاتخذوك } و { لأذقناك } هي لام القسم الحوفي .

وقال الزمخشري : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى .

ومن ذلك { يا نساء النبيّ من يأت منكن بفاحشة مبينة } الآية .

قال الزمخشري : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى .

وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين »