البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

{ ومن كان في هذه أعمى } وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من { أوتي كتابه بيمينه } هم أهل السعادة { ومن كان في هذه أعمى } هم أهل الشقاوة { ولا يظلمون فتيلاً } أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء .

والظاهر أن الإشارة بقوله : { في هذه } إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح .

وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه .

وقال ابن عباس أيضاً : { ومن كان في هذه } النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين { أعمى } .

وقيل : ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى { وأضل سبيلاً } لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة .

وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة .

وقيل : أعمى البصر كما قال { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .

وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا { أي من كان } في دنياه { هذه } وقت إدراكه وفهمه { أعمى } عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه .

وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين .

وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل .

ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله { أعمالكم } وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى .

وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره { أعمى } من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف { وأضل سبيلاً } لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو { أضل سبيلاً } وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و { أعمى } هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا .