البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا} (71)

ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } واختلفوا في العامل في { يوم } .

فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو .

وقيل : فتستجيبون .

وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف .

وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول .

وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله { ولا يظلمون } ، وحكاه أبو البقاء وقدره { ولا يظلمون } يوم ندعو .

وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً .

وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي كتابه } إلى قوله { ومن كان } انتهى .

وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين .

وأما قوله : والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً ، فقد يمكن أي ممن { أوتي كتابه } فيه { بيمينه } وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف .

وقال بعض النحاة : العامل فيه { وفضلناهم } على تقدير { وفضلناهم } بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل .

وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد .

وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم { يوم ندعو } والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به باذكر مضمرة .

وقرأ الجمهور : { ندعو } بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول { كل } مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله :

أبيت أسري وتبيتي تدلكي . . . ***وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير .

{ وأناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في { بإمامهم } الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم .

وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين { بإمامهم } .

والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم .

وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم .

وقال مجاهد وقتادة : نبيهم .

قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به .

وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا .

وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر .

وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين .

وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى .

وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها { فأولئك } جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله { أوتي كتابه بيمينه } وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } ولم يأت هنا قسيم من { أوتي كتابه بيمينه } وهو من يؤتي كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله .