البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

النسخ : إزالة الشيء بغير بدل يعقبه ، نحو : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر .

أو نقل الشيء من غير إزالة نحو : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر .

النسيئة : التأخير ، نسأ ينسأ ، ويأتي نسأ : بمعنى أمضى الشيء ، قال الشاعر :

لمؤن كألواح الإران نسأتها *** على لاحب كأنه ظهر برجد

{ ما ننسخ من آية } : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غداً ، ويقول اليوم قولاً ، ويرجع عنه غداً ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وأنه يناقض بعضه بعضاً ، فنزلت .

وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلاً ، ووقوعه شرعاً ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطوّلوا في ذلك .

وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه .

وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير .

ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير .

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير .

فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره ، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو ؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل .

ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس .

ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب .

ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم .

فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، قدّس الله تربته ، يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات .

وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمداً ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير .

وأسأل الله التوفيق للصواب .

وما من قوله : ما ننسخ ، شرطية ، وهي مفعول مقدّم ، وفي ننسخ التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم .

ألا ترى إلى قوله : { والله يختصّ } ؟ { والله ذو الفضل } ؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معاً ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط .

وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً .

وليس الأمركذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخاً ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً ، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً .

قال أبو عليّ : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ .

انتهى كلامه .

فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب .

وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية .

وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين .

تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء ، أي يزيله .

وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخة ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً .

وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ .

وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ .

وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها .

انتهى كلامه .

وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه .

وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو ننساها ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية .

التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : { ما ننسخ من آية } مفلتاً من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى .

من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس .

والمعنى : أي شيء من الآيات .

وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } { وما بكم من نعمة } وقولهم : من يضرب من رجل اضربه .

ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط ، لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم .

لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاماً في مدلول من .

فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين .

ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز .

قال : والمميز ما قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية .

قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية .

لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه .

وجوّزوا أيضاً أن تكون من زائدة ، وآية حالاً .

والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً .

قالوا : وقد جاءت الآية حالاً في قوله تعالى هذه : { ناقة الله لكم آية } وهذا فاسد لأن ، الحال لا يجرّ بمن وجوّزوا أيضاً أن تكون ما مصدراً ، وآية مفعولاً به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدراً جائز ، تقول : ما تضرب زيداً أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله ، وقال الشاعر :

نعب الغراب فقلت بين عاجل***

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب

وهذا فاسد ، لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عرى الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط .

ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين .

والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين .

{ أو ننساها } : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة .

وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز .

وذكر أبو عبيد البكري في ( كتاب اللآلىء ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر .

وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزو .

وقرأ أبو حياة كذلك ، إلا أنه ضم التاء .

وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز .

وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز .

وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين .

وقرأ الضحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز .

وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة .

وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة .

وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها .

وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة ، دون قراءة الأعمش ، إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها .

وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضاً ، أو الرفع ، قاله السدّي .

وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظاً يتلى ولا حكماً يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال :

إن عليّ عقبة أقضيها***

لست بناسيها ولا منسيها

أي لا آمر بتركها .

وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ، لأنه لا يقال : أنسى بمعنى ترك .

وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها .

وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نسي قرآناً .

وقال أبو عليّ وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه .

واحتج الزجاج بقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك } أي لم نفعل .

قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه .

قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزاً .

وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : «أفي القوم أبي ؟ » قال : نعم يا رسول الله ، قال : «فلم لم تذكرني ؟ » قال : خشيت أنها رفعت » .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لم ترفع ولكني نسيتها » .

انتهى كلام ابن عطية .

وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوماً أو يومين ، أو أكثر أخرها عن الورد .

وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظاً وحكماً ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : { نأت بخير منها } ، لأن ما أمضى وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها .

وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها .

ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها .

وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن .

{ نأت } : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلى الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين .

{ بخير منها } : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ، لأن المأتي به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب .

{ أو مثلها } : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة .

وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية .

ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : { أو مثلها } ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : { بخير } على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غيره بدل ، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف .

وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار .

{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : أم تريدون .

وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي .

انتهى كلامه ونقله .

وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً ، خصوصاً إذا دخل على النفي : { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } { أليس الله بأحكم الحاكمين } { ألم نربك فينا وليداً } { ألم يجدك يتيماً فآوى } { ألم نشرح لك صدرك } فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير .

والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل .

وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا رادَّ لأمره ، ولا معقب لحكمه .

وفي قوله : { ألم تعلم أن الله } ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : { من خير من ربكم } ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : { ألم تعلم أننا } إلى قوله : { ألم تعلم أن الله } ، وقد تقدم تفسيره قوله : { إن الله على كل شيء قدير } في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته .

/خ113