يقال : لحم الرجل لحامه ، فهو لحيم : ضخم .
ولحم يلحم ، فهو لحم : اشتاق إلى اللحم .
ولحم الناس يلحمهم : أطعمهم اللحم ، فهو لاحم .
وألحم ، فهو ملحم : كثر عنده اللحم .
الخنزير : حيوان معروف ، ونونه أصلية ، فهو فعليل .
وزعم بعضهم أن نونه زائدة ، وأنه مشتق من خزر العين ، لأنه كذلك ينظر .
يقال : تخازر الرجل : ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها ، ويقال : رجل أخزر : بين الخزر .
وقيل : هو النظر بمؤخر العين ، فيكون كالتشوش .
الإهلال : رفع الصوت ، ومنه الإهلال بالتلبية ، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته ، ويقال : أهل الهلال واستهل ، ويقال : أهل بكذا : رفع صوته .
يهل بالفدفد ركباننا *** كما يهل الراكب المعتمر
أو درة صدفية غوّاصها *** بهج متى تره يهل ويسجد
ومنه : إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته .
يضحك الذئب لقتلي هذيل *** وترى الذئب لها يستهل .
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } : تقدم الكلام على إنما في قوله : { إنما نحن مصلحون } وقرأ الجمهور : حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وما بعده نصب ، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية .
وقرأ ابن أبي عبلة : برفع الميتة وما بعدها ، فتكون ما موصولة اسم إن ، والعائد عليها محذوف ، أي إن الذي حرمه الله الميتة ، وما بعدها خبران .
وقرأ أبو جعفر : حرم ، مشدداً مبنياً للمفعول ، فاحتملت ما وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة اسم إن ، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران .
والوجه الثاني : أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنما حرم ، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً ، والميتة وما بعدها مرفوع .
ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل ، والميتة فاعل يحرم ، إن كانت ما مهيئة ، وخبر إن ، إن كانت ما موصولة .
وقرأ أبو جعفر : الميتة ، بتشديد الياء في جميع القرآن ، وهو أصل للتخفيف .
وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله : { أو كصيِّب } ، وهما لغتان جيدتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
ليس من مات فاستراح بميت***إنما الميت ميت الأحياء
قيل : وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين ، أن الميت بالتخفيف : الذي فارقته الروح ، والميت بالتشديد : الذي لم يمت ، بل عاين أسباب الموت .
ولما أمر تعالى : بأكل الحلال في الآية السابقة ، فصل هنا أنواع الحرام ، وأسند التحريم إلى الميتة .
والظاهر أن المحذوف هو الأكل ، لأن التحريم لا يتعلق بالعين ، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله : { كلوا مما في الأرض } ، { كلوا من طيبات ما رزقناكم } .
فالممنوع هنا هو الأكل ، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب .
فقوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } المحذوف : وطء ، كأنه قيل : وطء أمهاتكم ، { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي وطء ما وراء ذلكم .
فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة ، إما بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس ، وإما بدليل سمعي عند من لا يقول به .
وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة ، وما نسق عليها وعلقه بعينها ، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به ، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ .
والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل .
وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم ، ولا يخص شيء منها إلا بدليل .
قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعاماً متاعاً لكم وللسيارة } ، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : « حلت لنا ميتتان » وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم . انتهى .
فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ ، فلا نسلم له ذلك .
وإن عنى لم يدخل في الإرادة ، فهو كما قال ، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به .
قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد .
قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة .
ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال .
ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة .
وقال الله تعالى : { لتأكلوا منه لحماً طرياً } وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } انتهى كلامه .
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال .
وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أحلت لنا ميتتان » ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } .
وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور ألبتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به .
مثال ذلك ما جاء في الحديث : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع » فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب .
والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس .
فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه .
وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه .
{ والميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة .
واختلف في السمك الطافي ، وهو ما مات في الماء فطفا .
ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله .
وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه .
وأما ما مات من الجراد بغير تسبب ، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام ، وعند ابن عبد الحكم وابن نافع حلال ، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية .
هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل .
وأما الانتفاع بشيء منها ، نحو : الجلد ، والشعر ، والريش ، واللبن ، والبيض ، والأنفخة ، والجنين ، والدهن ، والعظم ، والقرن ، والناب ، والغصب ، فذلك مذكور في كتب الفقه ، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم .
والدم : ظاهره العموم ، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام .
فإذا كان مسفوحاً ، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه .
وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان : أحدهما : أنه طاهر ، ويقتضي ذلك أنه غير محرم .
وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه ، وكذلك الكبد والطحال .
وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه ، وفي مقدار اليسير ، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب ، وهذا كله من علم الفقه ، فيطالع في كتب الفقه .
ولم يذكر الله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم ، ولا جاء نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .
ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم ، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه .
وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت ، وأنه يحدث أذى للآكل .
وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد ، فهو في الأذى كالجامد في الميتة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الحس يكذب ذلك .
وجدنا من يأكل الميتة ، ويشرب الدم من الأمم ، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله ، ولا يحدث لهم أذى بذلك .
{ ولحم الخنزير } : ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط .
وقد ذهب إلى ذلك داود ، رأس الظاهرية ، فقال : المحرم اللحم دون الشحم .
وقال غيره من سائر العلماء : المحرم لحمه وسائر أجزائه .
وإنما خص اللحم بالذكر ، والمراد جميع أجزائه ، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به .
كما نص على قتل الصيد على المحرم ، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد .
وكما نص على ترك البيع { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم ، فهو أشغل لهم من غيره ، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه ؟ قلت : لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم . انتهى .
وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم ، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر ، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ، ألا ترى أنك تقول مثلاً رجل لابن ، أو رجل عالم ؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ، ولا أن ذكر الرجل مجرداً عن الوصفين يدل عليهما .
وقال ابن عطية : وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها .
وليس كما ذكر ، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف ، لأن كلاًّ من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره ، وليس له اسم يخصه .
إذا أطلق ذلك الاسم ، لم يدخل فيه الآخر ، ولا يدل عليه ، لا بمطابقة ، ولا تضمن .
فإذن ، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم ، إذ لو أريد المجموع ، لدل بلفظ يدل على المجموع .
وقوله : أجمعت الأمة على تحريم شحمه ، ليس كما ذكر .
ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى ، وهو اللحم دون الشحم ؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني ، من أنه لا يعتد في الإجماع ، بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعاً .
وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد ، قبل أن يخلق الجويني بأزمان ، بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم ، كما نقلوا أقاويل الأئمة ، كالأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد .
ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد خمل هذا المذهب .
ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم ، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحماً ، فأكل شحماً ، أنه يحنث .
وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا : لا يحنث ، كما لو حلف أنه لا يأكل شحماً ، فأكل لحماً .
وقال تعالى : { حرمنا عليهم شحومهما } والإجماع ، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود ، فالحق أن كلاًّ منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر .
واختلفوا في الانتفاع بشعره ، في خرز وغيره ، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ، ولم يجز ذلك الشافعي .
وقال أبو يوسف : أكره الخرز به .
وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر ؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ؟ فمنعوا من أكله ؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي : لا بأس بأكله .
وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ، ولا إنسانه ، ولا كلبه .
وسئل مالك عن خنزير الماء ، فتوقف وقال : أنتم تسمونه خنزيراً .
وقال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أحرمه .
وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا : تفرد النصارى بأكله ، فنهى المسلمون عن أكله ، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم ، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم .
وقيل : لكونه ممسوخاً ، فغلظ تحريم أكله لخبث أصله .
وقيل : لأنه يقطع الغيرة ويذهب بالأنفة ، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا ، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها .
{ وما أهلّ به لغير الله } : أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، أو ما ذكر عليه اسم غير الله ، قاله الربيع بن أنس وغيره ، أو ما ذكر اسم المسيح عليه ، قاله الزهري ، أو ما قصد به غير وجه الله تعالى للتفاخر والتباهي ، قاله عليّ والحسن .
وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق : إنها مما أهلّ بها لغير الله ، فتركها الناس ، راعى على النية في ذلك .
ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال : إنها نحرت لصنم .
وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت : لا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم .
والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله ، فيندرج في لفظ غير الله الصنم والمسيح والفخر واللعب ، وسمي ذلك إهلالاً ، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة ، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر ، كالإهلال بالتلبية صار علماً لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه .
ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب ، وهي الأوثان ، أجاز ذبيحة النصراني ، إذا سمى عليها باسم المسيح .
وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي : لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح ، وهو ظاهر قوله : { لغير الله } كما ذكرناه ، لأن الإهلال لغير الله ، هو إظهار غير اسم الله ، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره .
وروي عن علي أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا .
وأهلّ : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله .
والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله : به ، والضمير في به عائد على ما ، إذ هي موصولة بمعنى الذي .
فالمعنى : وما صيح به ، أي فيه ، أي في ذبحه لغير الله ، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير الله ، صيح في ذبحه أو لم يصح ، كما ذكرناه قبل .
وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب .
أما ما حرموه باجتهادهم ، فذلك لنا حلال .
ونقل ابن عطية عن مالك : الكراهة فيما سمى عليه الكتابي اسم المسيح ، أو ذبحه لكنيسة ، ولا يبلغ به التحريم .
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ، وقال : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } وقال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار ، وقيده فيما قبل .
فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم .
وفي الأولى بقوله : { غير باغ ولا عاد } .
قال مجاهد وابن جبير وغيرهما : غير باغ على المسلمين وعاد عليهم .
فيدخل في الباغي والعادي : قطاع السبيل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم ، والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة .
وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو أنه إذا لم يخرج باغياً على إمام المسلمين ، ولم يكن سفره في معصية ، فله أن يأكل من هذه المحرّمات إذا اضطر إليها .
وإن كان سفره في معصية ، أو كان باغياً على الإمام ، لم يجز له أن يأكل .
وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم : غير قاصد فساد وتعدّ ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة .
وقال ابن عباس والحسن : غير باغ في الميتة في الأكل ، ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو يرجع لمعنى القول قبله .
وبه قال أبو حنيفة ومالك : وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرّمات عند الاضطرار ، كما أباحوا لأهل العدل .
وقال السدي : غير باغ ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته ، فيجيء أكله شهوة ، ولا عاد ، أي متزوّد .
وقيل : غير باغ ، أي مستحل لها ، ولا عاد ، أي متزوّد منها .
وقال شهر بن حوشب : غير باغ ، أي مجاوز القدر الذي يحل له ، ولا عاد ، أي لا يقصده فيما لا يحل له .
والظاهر من هذه الأقوال ، على ما يفهم من ظاهر الآية ، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد .
وإن قوله : { إلا ما اضطررتم إليه } ، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا ، وفي قوله : { غير متجانف لإثم } ، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين ، لأنه قال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } .
وتفصيل المحرّم هو في هاتين الآيتين ، والاضطرار فيهما مقيد ، فتعين أن يكون مقيداً في الآية التي أحيلت على غيرها .
والظاهر في البغي والعدوان ، أن ذلك من قبل المعاصي ، لأنهما متى أطلقتا ، تبادر الذهن إلى ذلك .
وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة ، وفي التزوّد منها ، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياساً على هذه المحرمات .
وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ، قالوا : وإن وجد ميتة وخنزيراً ، أكل الميتة ، قالوا : لأنها أبيحت له في حال الاضطرار ، والخنزير لا يحل بحال ، وليس كما قالوا ، لأن قوله : { فمن اضطر } جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير .
فالمعنى : فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية ، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة ، والمضطر مخير فيما يأكل منها .
فقولهم : إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح .
وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو ، أو حج ، أو تجارة ، وكان مع ذلك باغياً في أخذ مال ، أو عادياً في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعاً من استباحة الميتة للضرورة .
وأنهم أجمعوا أيضاً على جواز الترخيص للباغي ، أو العادي الحاضر ، وفي نقل هذين الإجماعين نظر .
واختلف القراء في حركة النون من قوله : { فمن اضطر } { وأن احكم } { ولكن انظر } ، وشبهه وحركة الدال من : { ولقد استهزئ } والتاء من : { وقالت اخرج عليهن } وحركة التنوين من : { فتيلاً انظر } ونحوه ، وحركة اللام من نحو : { قل ادعوا الله } والواو من نحو : { أو ادعوا الرحمن } فكسر ذلك عاصم وحمزة ، وحركها أبو عمرو ، إلا في اللام والواو ؛ وعباس ويعقوب ، إلا في الواو ؛ وضم باقي السبعة ، إلا ابن ذكوان ، فإنه كسر التنوين .
وعنه في : { برحمة ادخلوا } و { خبيثة اجتثت } خلاف ، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة ، فإن كانت عارضة ، فالكسر نحو : { أن امشوا } وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين ، والضم أنه اتباع .
ولم يعتدوا بالساكن ، لأنه حاجز غير حصين ، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة .
وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : فمن اضطر ، بكسر الطاء ، وأصله اضطرر ، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء .
وقرأ ابن محيصن : فمن اطر ، بإدغام الضاد في الطاء ، وذلك حيث وقع .
ومعنى الاضطرار : الالجاء بعدم ، وغرث هذا قول الجمهور .
وقيل معناه : أكره وغلب على أكل هذه المحرمات .
وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر ، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله : اضطر ، وقدره : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد .
قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل ، لا في الاضطرار .
ولا يتعين ما لاقاه ، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله : غير باغ ولا عاد ، بل هو الظاهر والأولى ، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلاً بين ما ظاهره الاتصال بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد .
وعاد : اسم فاعل من عدا ، وليس اسم فاعل من عاد ، فيكون مقلوباً ، أو محذوفاً من باب شاك ولاث ، كما ذهب إليه بعضهم ، لأن القلب لا ينقاس ، ولا نصير إليه إلا لموجب ، ولا موجب هنا لادعاء القلب .
وأصل البغي ، كما تقدم ، هو طلب الفساد ، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب ، فاستعمل في طلب الخير ، كما قال الشاعر :
أألخير الذي أنا أبتغيه*** أم الشر الذي هو يبتغيني
لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم***
فلا إثم عليه ، الإثم : تحمل الذنب ، نفى بذلك عنه الحرج .
والمحذوف الذي قدرناه من قولنا : فأكل ، لا بد منه ، لأنه لا ينفي الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار ، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده ، بل على الأكل المترتب على الاضطرار ، في حال كون المضطر لا باغياً ولا عادياً .
وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصياً بسفره فأكل ، أنه يكون عله الإثم ، لأنه يطلق أنه باغ ، خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه ، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة .
وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب ، أو إكراه ، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر .
وظاهر قوله : { فلا إثم عليه } نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل ، لا وجوب الأكل .
وقال الطبري : ليس الأكل عند الضرورة رخصة ، بل ذلك عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً .
وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له .
{ إن الله غفور رحيم } : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ، لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بهم .
أو لأن المخاطب ، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفور له ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة .
أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك . .