{ فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو شد ذكرا } وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقرى الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العاني ، ويجر النواصي ، ويفعل كذا وكذا .
وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا أقسموا بالآباء ، فيقولون .
وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك ! ليس يذكر الله ، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه ، وقال : معناه أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت : فإذا قضيتم ، أي أديتم وفرغتم .
كقوله : { فاذا قضيت الصلاة } أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله : وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ .
وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فاذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا .
وهذا خلاف الظاهر ، لأن الظاهر الفراغ من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في : فإذا ، بعد الجمل السابقة .
والمناسك هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم ، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبائح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد .
فاذكروا الله : هذا جواب : إذ ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ، وقيل : الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ، وقيل : ذكر آبائهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبه أبه ، أول ما يتكلم .
وقيل : معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سُبَّا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس .
ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ : كذكركم آباؤكم ، برفع ألآباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم .
والمعنى : ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه .
ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع ، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع ، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء .
و : أو ، هنا قيل : للتخيير ، وقيل : للاباحة ، وقيل : بمعنى بل أشدّ ، جوزوا في إعرابه وجوهاً اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تميزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدَّورها ، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجهاً ، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجلٍ .
فعلى هذا يكون التركيب في مثل : أضرب زيداً كضرب عمر وخالداً أو أشدّ ضرب ، بالجر لا بالنصب ، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه .
أحدها : أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في : ذكركم ، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز ، كما قالوا : شاعر شعر ، قاله أبو علي وابن جني .
الثاني : أن يكون معطوفاً على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى .
وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله : من آبائكم أي : من ذكركم لآبائكم .
الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون .
التقدير : أو كونوا أشد ذكراً له منكم لأبائكم .
ودل عليه أن معنى : فاذكروا الله ؛ كونوا ذاكريه .
قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني .
وجوزوا الجر في أشد على وجهين .
أحدهما : ان يكون معطوفاً على : ذكركم ، قاله الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما .
فيكون التقدير : أو كذكر أشدّ ذكراً ، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر .
الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في : كذكركم ، قاله الزمخشري .
قال ما نصه : أو أشدّ ذكراً في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون : أشدّ ، منصوباً على الحال ، وهو نعت لقوله : ذكراً لو تأخر ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، كقولهم .
فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكراً أشدّ ، يعنى : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكراً أشدّ معطوفاً على محل الكاف من : كذكركم ، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً ، لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال ، لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون : أو أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضرباً ، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع .
ولو تقدّم لكان : فاذكروا ذكراً كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع ، تأخر .
لا يقال في الوجه الأول : إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو : أو ، وبين المعطوف الذي هو : ذكراً ، بالحال الذي هو : أشدّ ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً ، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول ، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال ، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف .
وهذا أولى من جعل : ذكراً ، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون : للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفاً على : أباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها .
{ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب .
والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدعو إلاَّ بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وإن هذا من الالتفات .
ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم .
وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثَمَّ قِسماً ثالثاً لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعاء ، وافتشاء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه .
هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه .
{ وما له في الآخرة من خلاق } تقدّم تفسير هذا في قوله : { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } واحتملت هذه الجملة هنا معنيين : أحدهما : الاخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا .
والثاني : أن يكون المعنى إخباراً عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : { ربنا آتنا في الدنيا } ولو جرى على لفظٍ من ، لكان : ربّ آتني .
وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.