البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

أمواتاً : جمع ميت ، وهو أيضاً جمع ميتة ، وجمعهما على أفعال شذوذ ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل .

{ كيف } : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال ، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ ، فخرج عن حقيقة الاستفهام .

وقيل : صحبه الإنكار والتعجب ، أي إن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخراً فيثيب ويعاقب ، لا يليق أن يكفر به .

والإنكار بالهمزة إنكار لذات الفعل ، وبكيف إنكار لحاله ؛ وإنكار حاله إنكار لذاته ، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها ، فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة ، وهو أبلغ ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال ، والمقصود إنكار وقوع ذات الكفر .

قال الزمخشري : وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده ، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات ، كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني ، انتهى كلامه .

وهذا الخطاب فيه التفات ، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة ، ألا ترى إلى قوله : { وأما الذين كفروا } إلى آخره ؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أن لا يصله الإنكار ، بخلاف من كان مخاطباً ، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه .

والناصب ل { كيف تكفرون } .

وأتى بصيغة تكفرون مضارعاً ولم يأت به ماضياً وإن كان الكفر قد وقع منهم ، لأن الذي أنكر أو تعجب منه الدوام على ذلك ، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن وقع منه الكفر ثم آمن ، إذ لو جاء كيف كفرتم { بالله } لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي الله عنهم .

والواو في قوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } : واو الحال ، نحو قوله تعالى : { وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمةٍ } { ونادى نوح ابنه وكان في معزل } قال الزمخشري : فإن قلت فكيف صح أن يكون حالا ، وهو ماض ؟ ولا يقال : جئت وقام الأسير ، ولكن : وقد قام ، إلا أن يضمر قد .

قلت : لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده ، ولكن على جملة قوله : كنتم أمواتاً إلي ترجعون ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ؟ { ثم يميتكم } بعد هذه الحياة ؟ { ثم يحييكم } بعد الموت ثم يحاسبكم ؟ انتهى كلامه .

ونحن نقول : إنه على إضمار قد ، كما ذهب إليه أكثر الناس ، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم .

والجملة الحالية عندنا فعلية .

وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد ، فلا نذهب إلى ذلك ، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال ، ولذلك قال : فإن قلت ، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالاً ؟ قلت : هو العلم بالقصة ، كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة ، وبأولها وبآخرها ؟ انتهى كلامه .

ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله : وكنتم أمواتاً فأحياكم ، ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عن الخلق بقوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } ، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم : « أن تجعل لله نداً وهو خلقك » أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع ، ثم نعمة الاصطناع ، وقد شمل النعمتين قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } لأن بالإحياء حصلتا .

ألا ترى أنها تضمنت الجملة الإيجاد والإحسان إليك بالتربية والنعم إلى زمان أن توجه عليك إنكار الكفر ؟ ولما كان مركوزاً في الطباع ومخلوقاً في العقول أن لا خالق إلا الله ، { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } كانت حالاً تقتضي أن لا تجامع الكفر ، فلا يحتاج إلى تكلف .

إن الحال هو العلم بهذه الجملة .

وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى : { ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } جملاً أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عما قبلها من الحرف والصيغة .

ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال ، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لما نصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم .

فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول ، وكثير من الناس علموا ثم عاندوا ، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليها بها أقوال : الأول : أن الموت الأول : العدم السابق قبل الخلق ، والإحياء الأول : الخلق ، والموت الثاني : المعهود في دار الدنيا ، والحياة الثانية : البعث للقيامة ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد .

الثاني : أن الموت الأول : المعهود في الدنيا ، والإحياء الأول : هو في القبر للمسألة ، والموت الثاني : في القبر بعد المسألة ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس وأبو صالح .

الثالث : أن الموت الأول : كونهم في أصلاب آبائهم ، والإحياء الأول : الإخراج من بطون الأمهات ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله قتادة .

الرابع : أن الموت الأول : هو الذي اعتقب إخراجهم من صلب آدم نسماً كالذر ، والإحياء الأول : إخراجهم من بطون أمهاتهم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء : البعث ، قاله ابن زيد .

الخامس : أن الموت الأول : مفارقة نطفة الرجل إلى الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث .

السادس : أن الموت الأول هو الخمول ، والإحياء الأول : الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس .

السابع : أن الموت الأول : كون آدم من طين ، والإحياء الأول : نفخ الروح فيه فحييتم بحياته ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث .

واختار ابن عطية القول الأول وقال : هو أولى الأقوال ، لأنه لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله : وكنتم أمواتاً ، وإسناده آخراً الإماتة إليه ، مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها ، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها .

انتهى كلامه ، وهو كلام حسن .

وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم : أحدها : أمواتاً بالشرك فأحياكم بالتوحيد .

الثاني : أمواتاً بالجهل فأحياكم بالعلم .

الثالث : أمواتاً بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف .

الرابع : أمواتاً بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم .

الخامس : أمواتاً عنه فأحياكم به ، قاله الشبلي .

السادس : أمواتاً بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر ، قاله ابن عطاء .

السابع : أمواتاً بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم ، قاله فارس .

واختار الزمخشري : أن الموت الأول كونهم نطفاً في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء ، ثم يميتهم بعد هذه الحياة ، ثم يحييهم بعد الموت ، ثم يحاسبهم .

وجوز أيضاً أن يكون المراد بالإحياء الثاني : الإحياء في القبر ، وبالرجوع : النشور ، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضاً النشور ، وبالرجوع : المصير إلى الجزاء .

وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر ، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه ، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر ، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم ، إلا أن أهل السنة يقولون : يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره ، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره ، والكرامية تقول : يعذب وهو ميت .

والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر ، فوجب القول به واعتقاده .

واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله : أمواتاً أي تراباً ونطفاً ، لأن ابتداء خلق آدم من التراب ، وخلق سائر المكلفين من أولاده ، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، من النطف .

قال : واختلفوا ، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز ، لأن الميت من يحله الموت ، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة ، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة ، انتهى كلامه .

وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب ، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتاً قط ، فكيف يندرج في قوله : { وكنتم أمواتاً } ؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتاً ، ومن وقت استقرارهم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحماً .

والإماتة الثانية هي المعهودة ، والإحياء هو البعث بعد الموت .

ويكون الإحياء الأول والموت الأول ، والإحياء الثاني حقيقة ، وأما كونهم أمواتاً ، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة ، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب ، لأنه على كل حال موجود ، فقرب اتصافه بالموت ، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوماً وكونه في الصلب .

أو حين كان آدم طيناً ، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف ، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتاً ، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجوداً لا عدماً صرفاً ؟ { وآية لهم الأرض الميتة } { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } وتقول العرب : أرض موات .

وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول : هو الخمول ، والإحياء الأول : هو التنويه والذكر ، فمجاز بعيد هنا ، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى .

وقد أمكن ذلك بما ذكرناه ، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله : فأحياكم ، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة ، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب .

ومن قال : إن الموت الأول : هو المعهود ، والإحياء الأول هو للمسألة ، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه ، أي وتكونون أمواتاً فيحييكم ، كقوله : { أتى أمر الله } .

وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر ، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين ، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة .

قالوا : ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى : { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } لأنه من كلام الكفار ، ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم .

والجواب : أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضاً ، فيمكن أن يكون قوله : ثم يحييكم هو للمسألة ، ولذلك قال : ثم إليه ترجعون ، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان .

والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث ، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة .

قال الحسن : ذكر الموت مرتين هنا لأكثر الناس ، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات ، { أو كالذي مر على قرية }

الآيات .

وفي قوله تعالى : { فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } دليل على اختصاصه تعالى بذلك ، ودليل على النشر والحشر .

والظاهر في قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } أن الهاء عائدة على الله سبحانه وتعالى ، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب .

وقيل : عائدة على الجزاء على الأعمال .

وقيل : عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه .

وقيل : عائدة على الإحياء المدلول عليه بقوله : فأحياكم .

وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى ، من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً .

واستدلت المجسمة بقوله : { ثم إليه ترجعون } ، على أنه تعالى في مكان ولا حجة لهم في ذلك .

وقرأ الجمهور : ترجعون مبنياً للمفعول من رجع المتعدي .

وقرأ مجاهد ، ويحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، والفياض بن غزوان ، وسلام ، ويعقوب : مبنياً للفاعل ، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم ، لأن رجع يكون لازماً ومتعدياً .

وقراءة الجمهور أفصح ، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى ، { فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } ، فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسنداً إليه ، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع ، إذ كان يكون الترتيب : { ثم إليه مرجعكم } فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت التناسب اللفظي .

وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل ، إذ هو وقبل البناء للمفعول مبني للفاعل .

وأما قراءة مجاهد ، ومن ذكر معه ، فإنه يفوت التناسب المعنوي ، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه ، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ .

والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة ، والإحياء والرجوع إليه تعالى ، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعل الأشياء جميعها .

وفي قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه ، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان ، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث ، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله .