الحياء : تغير وإنكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، ومحله الوجه ، ومنبعه من القلب ، واشتقاقه من الحياة ، وضده : القحة ، والحياء ، والاستحياء ، والانخزال ، والانقماع ، والانقلاع ، متقاربة المعنى ، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى .
أن : حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر ، وعمله في المضارع النصب ، إن كان معرباً ، والجزم بها لغة لبني صباح ، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف ، وذكروا أنها توصل بالأمر ، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء .
وأجاز بعضهم الفصل بالظرف ، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط .
وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه ، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها ، ومنعه الجمهور .
وأحكام أن الموصولة كثيرة ، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً ، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي } إن شاء الله تعالى .
وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما ، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد ، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله ، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب ، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين ، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي ، ولا للنفي ، ولا بمعنى إذ ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك .
وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع ، وسيأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر ، إن شاء الله تعالى .
والضرب : إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنع والاعتمال .
وروى اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب .
والبعوضة : واحد البعوض ، وهي طائر صغير جداً معروف ، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع .
أما : حرف ، وفيه معنى الشرط ، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل ، وبعضهم بحرف إخبار ، وأبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا : أيما .
وقال سيبويه في تفسير أما : أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها ، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء ، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما ، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان ، وخلافاً للمبرد وابن درستويه ، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء .
ومسألة أما علماً ، فعالم لزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم ، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو .
الحق : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .
حق الأمر ثبت ووجب ومنه : { حقت كلمة ربك } والباطل مقابله ، وهو المضمحل الزائل ،
ماذا : الأصل في ذا أنها اسم إشارة ، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة ، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره .
وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولاً : أحدها : أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح ، وبدليل رفع البدل قال الشاعر :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول *** أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
الثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه : إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً ، ويدل على هذا الوصف وقوع الاسم جواباً لها منصوباً في الفصيح ، وقول العرب : عماذا تسأل بإثبات ألف ما ، وقول الشاعر :
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ***لا يستفقن إلى الديرين تحتانا
ولا يصح موصولية ذا هنا ، الثالث : أن تكون ما مع ذا اسماً موصولاً ، وهو قليل ، قال الشاعر :
دعي ماذا علمت سأتقيه *** ولكن بالمغيب نبئيني
فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا : وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط .
وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه : دعي ماذا علمت .
الإرادة : طلب نفسك الشيء وميل قلبك إليه ، وهي نقيض الكرهة ، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى الله تعالى ، إن شاء الله .
الفسوق : الخروج ، فسقت الرطبة : خرجت ، والفاسق شرعاً : الخارج عن الحق ، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل .
{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً مّا بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما كفروا فيقولون ماذا أراد بهذا مثلاً } ، الآيات .
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والفراء : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب ، والتراب ، والحجارة ، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح .
قالوا : إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات ، فردّ الله عليهم بهذه الآية .
وقال الحسن ، ومجاهد ، والسدّي ، وغيرهم : نزلت في المنافقين ، قالوا : لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا : الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها ، فرد الله عليهم بهذه الآية ، وقيل نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين { والذين في قلوبهم مرض } وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم متوافقين .
وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب .
وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت .
كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها كان سبباً لهلاكهم ، وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلاً لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثواباً أو عقاباً ، وإلا ظهر في سبب النزول القولان الأولان .
ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب .
وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم *** وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها *** وما انفكت الأمثال في الناس سائره
فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر .
والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير .
وكذلك أيضاً قرأت أمثالاً في الزبور .
فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد .
وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل .
وقد تقدم ذكرها عند قوله : { وإياك نستعين } وهذا هنا من الحياء .
وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنياً عن المجرد بل هو موافق للمجرد ، وهو أحد المعاني أيضاً الذي جاء لها استفعل .
قال الزمخشري : يقال حيي الرجل كما يقال : نسي وخشي وشظي الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار ، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلاً ، انتهى كلامه .
فظاهره أنه يقال : من الحياء حيي الرجل ، فيكون استحيا على ذلك موافقاً للمجرد ، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنياً عن المجرد .
وقرأ ابن كثير في رواية شبل ، وابن محيصن ، ويعقوب : يستحي بياء واحدة ، وهي لغة بني تميم ، يجرونها مجرى يستبي .
ألا تستحي منا ملوك وتتقي *** محارمنا لا يبوء الدم بالدم
والماضي : استحى ، قال الشاعر :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسيت في إناء من الورد
واختلف النحاة في المحذوفة ، فقيل لام الكلمة ، فالوزن يستفع ، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع .
وقيل المحذوف العين ، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل .
وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين .
وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وليس هذا الحذف مختصاً بالماضي والمضارع ، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات ، كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، وغير ذلك .
وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعدياً بنفسه ، ويكون متعدياً بحرف جر ، يقال : استحييته واستحييت منه .
فعلى هذا يحتمل { أن يضرب } أن يكون مفعولاً به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه ، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر .
وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى : { أن لهم جنات } أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر ؟ .
واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه ، فقيل : المعنى لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، قاله الزمخشري وغيره ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه ، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب .
وقيل : المعنى لا يخشى ، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته ، ورجحه الطبري .
وقد قيل في قوله تعالى : { وتخشى الناس } أن معناه تستحي من الناس .
وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى ، يجوز أن يوصف الله تعالى بها ، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به ، وقيل : ينبغي أن تمر على ما جاءت ، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى ، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق .
والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ، وفيه الحقيقة والمجاز ، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه ، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى ، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه ، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فلذلك أوله أهل العلم ، وقد جاء منسوباً إلى الله مثبتاً فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » ، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وقد يجوز أيضاً في الاستحياء ، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال ، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه***
هو الليث ليث الغاب بأساً ونجدة *** وإن كان أحيا منه وجهاً وأكرما
ويجوز أن يكون قوله تعالى : { لا يستحيي } على سبيل المقابلة ، لأنه روي أن الكفار قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة ، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به ، شائع في لسان العرب ، ومنه : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ، وجاء ذكر الاستحياء منفياً عن الله تعالى ، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته ، يصح أن ينفى عن الله تعالى ، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } { لم يلد ولم يولد } { ما اتخذ الله من ولد } { وهو يطعِم ولا يطعَم } ونقول : الله تعالى ليس بجسم .
فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض ، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه ، ولا صحة نسبته إليه ، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره .
زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتاً يجب أن لا يطلق على طريق النفي ، قال : فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكثرة ذلك ، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته ، له كثير في القرآن ولسان العرب ، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك .
ويضرب : قيل معناه : يبين ، وقيل : يذكر ، وقيل : يضع ، من ضربت عليهم الذلة ، وضرب البعث على بني فلان ، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد ، وقيل يضرب : في معنى يجعل ويصير ، كما تقول : ضربت الطين لبناً ، وضربت الفضة خاتماً .
فعلى هذا يتعدى لاثنين ، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها ، فيتعدى إلى اثنين ، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو .
وما : إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعاً ، كما تقول : ائتني برجلٍ ما ، أي : أيّ رجل كان .
وأجاز الفراء ، وثعلب ، والزجاج : أن تكون ما نكرة ، وينتصب بدلاً من قوله : مثلاً .
واختلف في توجيه النصب على وجوه :
أحدها : أن تكون صفة لما ، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل ، ومثلاً مفعول بيضرب ، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما ، وهو قول الفراء .
الثاني : أن تكون بعوضة عطف بيان ، ومثلاً مفعول بيضرب .
الثالث : أن تكون بدلاً من مثل .
الرابع : أن يكون مفعولاً ليضرب ، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها .
والخامس : أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً ، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين .
والسادس : أن تكون مفعولاً أول ليضرب ، ومثلاً المفعول الثاني .
والسابع : أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار ، والمعنى { أن يضرب مثلاً } ما بين { بعوضة فما فوقها } ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً ، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين ، ونسبه المهدوي للكوفيين ، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء ، ويكون : مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه ، وأنكر هذا النصب ، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه ، أبو العباس .
وتحرير نقل هذا المذهب : أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي ، فينتصب ما بعدها ، سواء كان نكرة أم غير نكرة ، ويعطف عليه بالفاء فقط ، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو ، ولا ثم ، ولا أو ، ولا لا ، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف ، وهو بين .
فلما حذف بين ، قام هذا مقامه في الإعراب .
ويقدرون الفاء بإلى ، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع .
حكى الكسائي عن العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وما منصوبة بمطرنا .
وحكى الكسائي والفراء عن العرب : هي أحسن الناس ما قرنا ، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير ، وتقول : هي حسنة ما قرنها إلى قدمها .
قال الفراء : أنشدنا أعرابي من بني سليم :
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم *** ولا حبال محب واصل تصل
وقال الكسائي : سمعت أعرابياً نظر إلى الهلال فقال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك ، وحكى الفراء عن العرب : الشنق ما خما فعشرين .
والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا ، وما في هذا المعنى لا تسقط ، فخطأ أن يقول : مطرنا زبالة فالثعلبية .
وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون ، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا ، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح ، وذلك الواحد هو مثلاً لقوله تعالى : ضرب مثل ، ولأنه المقدم في التركيب ، وصالح لأن ينتصب بيضرب .
وما : صفة تزيد النكرة شياعاً ، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس .
وبعوضة : بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات ، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي ، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس .
وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، ورؤبة بن العجاج ، وقطرب : بعوضة بالرفع ، واتفق المعربون على أنه خبر ، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبراً ، فقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة ، وفي هذا وجهان : أحدهما : أن هذه الجملة صلة لما ، وما موصولة بمعنى الذي ، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين ، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة .
وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك في غير أيّ من الموصولات ، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة ، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً ، التقدير : مثلاً الذي هو بعوضة .
والوجه الثاني : أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة ، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق ، وقيل : خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما ، على أن تكون استفهامية .
قال الزمخشري ، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها ، كما يقال ، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران ، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه ، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين ، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام ، وما من قوله : فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف ، والموصوفة أرجح .
وإن رفعنا بعوضة ، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً ، فذلك من عطف الجمل ، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة ، وما زائدة ، أو صفة فعطف على البعوضة ، إما موصولة أو موصوفة ، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت ، قاله ابن عباس : ويكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر ، وما فوقها تنبيهاً على الكبر ، وبه قال أيضاً قتادة ، وابن جريج ، وقيل : المعنى فما فوقها في الصغر ، أي وما يزيد عليها في الصغر ، كما تقول : فلان أنذل الناس ، فيقال لك : هو فوق ذلك ، أي أبلغ وأعرق في النذالة ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي .
وقال ابن قتيبة : فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل ، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه ، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر .
وقيل : أراد ما فوقها وما دونها ، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها ، كما اكتفى في قوله :
{ سرابيل تقيكم الحر } عن قوله : والبرد ، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل ، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب .
فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير ، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة ، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه : أحدها : أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام ، وأظهر فيها ، مع صغر حجمها ، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة .
وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة ، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء .
الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال .
الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحيي الله تعالى أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما قال تعالى : { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ، لأن الذي جعلها مثلاً لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه .
وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعاً لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ، وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل .
وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي ، أن فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، وإلا ظهر الأول لدلالة قوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل .
والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق للدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : { ماذا أراد الله } .
وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام .
أحدهما : أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما .
وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي أراده الله .
والثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وتركيب ذا مع ما ، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير ، أي شيء أراده الله ، وهذان الوجهان فصيحان .
قال ابن عطية : واختلف النحويون في ماذا فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل : ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي ، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره .
انتهى كلام ابن عطية ، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك ، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين ، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا ، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا .
والإرادة بالتفسير اللغوي ، وهي ميل القلب إلى الشيء ، يستحيل نسبتها إلى الله تعالى .
قال بعض المفسرين : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه .
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع ، لا في الوقوع ، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة .
وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته ، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة ، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل ، والكرّامية تقول بحدوثها فيه تعالى ، وإنها إرادات كثيرة ، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم ، ومنهم من قال يجوز عدمها ، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين .
وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين ، أي من مثل ، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة ، أي متمثلاً به ، والعامل فيه اسم الإشارة ، وهو كقولك : لمن حمل سلاحاً رديئاً ، ماذا أردت بهذا سلاحاً ، فنصبه من وجهين : التمييز والحال من اسم الإشارة .
وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى ، أي متمثلاً .
وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع ، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله ، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع ، وجعلوا من ذلك .
وعالين قنوانا من البسر أحمرا***
فأحمر عندهم من صفات البسر ، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر ، كذلك قالوا : ما أراد الله بهذا المثل .
فلما لم يجر على إعراب هذا ، انتصب مثلاً على القطع ، وإذا قلت : عبد الله في الحمام عرياناً ، ويجيء زيد راكباً ، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي .
وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع ، وما لا فمنصوب على الحال ، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال ، ولم يثبت البصريون النصب على القطع .
والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو ، والمختار انتصاب مثل على التمييز ، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه .
{ يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق ، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } { وقليل مّا هم } ، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال ، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا كثيراً ذهاباً إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر :
إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا
واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : { يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } في موضع الصفة لمثل ، وكان المعنى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية ، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا .
وهذا الوجه ليس بظاهر ، لأن الذي ذكر أنّ الله لا يستحيي منه هو ضرب مثل مّا ، أي مثل : كان بعوضة ، أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل { يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً } ، إلا أن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخباراً من الله تعالى هو الظاهر ، وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك ، فهو خالق الضلال والهداية ، وقد تؤول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة ، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه ، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان ، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع .
والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب ، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم .
وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى : { إن المجرمين في ضلال وسعر } ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله : { يضلّ به كثيراً } من كلام الكفار ، ويكون قوله : { ويهدي به كثيراً } إلى آخر الآية ، من كلام الله تعالى .
وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب ، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجري على أنه من كلام الله .
وإما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباساً في التركيب ، وكتاب الله منزه عنه .
وقرأ زيد بن علي : يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول .
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة .
قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية .
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : يضلّ بضمّ الياء في الأول ، وما يضلّ به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضاً في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه .
والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلاً ، وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل .
وقيل : الضمير في به من قوله : { يضل به } ، أي بالتكذيب في به من قوله : { ويهدي به كثيراً } ، أي بالتصديق .
ودلّ على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } { وأما الذين كفروا فيقولون } .
ومعنى : { وما يضلّ به إلا الفاسقين } ، أي : وما يكون ذلك سبباً للضلالة إلا عند من خرج عن الحق .
وقال بعض أهل العلم : معنى يضلّ ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالاً على ضلاله ، ومن آمن به وصدق إيماناً على إيمانه .
والفاسقين : مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء .
ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره : وما يضل به أحداً إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيداً ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ .
وإذا لم يفرغ ، فإما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوباً ، أو مجروراً ، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته .
فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيداً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، قال الشاعر :
نجا سالم والنفس منه بشدقه *** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف ، وإن أثبته ، ولم يحذفه ، فله أحكام مذكورة .
فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل ، ويكون من الاستثناء المفرغ ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء ، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى ، والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى .
فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر .
قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين ، أي بين منزلة المؤمن والكافر .
وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء ، رضي الله عنه وعن أشياعه .
وكونه بين بين ، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ، ويوارث ، ويغسل ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم ، واللعن ، والبراءة منه ، واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل شهادته .
ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه ، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، يريد اللمز والتنابز ، { إن المنافقين هم الفاسقون } انتهى كلام الزمخشري .
وهو جار على مذهبه الاعتزالي ، والذي عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر ، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه ، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان ، ولا بلغ حد الكفر .
وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه .
ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك .
ومنهم من قال : كل معصية نفاق ، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق .
وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري ، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة ، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيها ، فإن الأمة كانوا على قولين ، فأحدثوا قولاً ثالثاً فسموا معتزلة لذلك ، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين .