البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

الربوة : قال الخليل : أرض مرتفعة طيبة ، ويقال فيها : الرباوة ، وتثلث الراء في اللغتين ، ويقال : رابية .

قال الشاعر :

وغيث من الوسميّ جوّ تلاعه***

أجابت روابيه النجا وهواطله

وقال الأخفش : ويختار الضم في ربوة لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلاَّ الربا ، وأصله من ربا الشيء زاد وارتفع .

وتفسير بالسدّي بأنها : ما انخفض من الأرض ليس بشيء .

الطل : المستدق من القطر الخفيف ، هذا مشهور اللغة .

وقال قوم ، منهم مجاهد : الطل الندى ، وهذا تجوّز .

وفي ( الصحاح ) : الطل أضعف المطر ، والجمع طلال ، يقال : طلت الأرض وهو مطلوب .

قال الشاعر :

ولما نزلنا منزلاً طله الندى***

ويقال أيضاً : أطلها الندى ، والطلة الزوجة .

{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } لما ضرب مثل : من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضدّه بتمثيل محسوس للذهن ، حتى يتصوّر السامع تفاوت ما بين الضدّين ، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن .

ولما وصف صاحب النفقة بوصفين ، قابل ذلك هنا بوصفين ، فقوله : { ابتغاء مرضات الله } مقابل لقوله : { رئاء الناس } وقوله : { وتثبيتاً من أنفسهم } مقابل لقوله : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده ، ولا يكون إلاَّ عن يقين بالآخرة .

والتقادير الثلاثة التي في قوله : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } جارية هنا ، أي : ومثل المنافقين كمثل غارس حبة ، أو : مثل نفقتهم كحبة ، أو : مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها .

وجوّزوا في : ابتغاء أن يكون مصدراً في موضع الحال .

أي : مبتغين ، وأن يكون مفعولاً من أجله ، وكذلك : وتثبيتاً .

قال ابن عطية : ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولاً من أجله ، لعطف ، وتثبيتاً عليه ، ولا يصح في : وتثبيتاً أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت .

وقال مكي في ( المشكل ) : كلاهما مفعول من أجله ، وهو مردود بما بيناه .

انتهى كلامه .

وتثبيت ، مصدر : ثبت ، وهو متعد ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره الثواب من الله تعالى ، أي : وتثبيتاً وتحصيلاً من أنفسهم الثواب على تلك النفقة ، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملاً على الإنفاق في سبيل الله .

ومن قدر المفعول غير ذلك أي : وتثبيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، وجعله من أنفسهم على أن تكون : من ، بمعنى : اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : فعلت ذلك كسراً من شهوتي ، أي : لشهوتي ، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له .

قال الشعبي ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو صالح ، وابن زيد : معناه وتيقناً ، أي : إن نفوسهم لها بصائر متأكدة ، فهي تثبتهم على الإنفاق .

ويؤكده قراءة من قرأ : أو تبييناً من أنفسهم ، وقال قتادة أيضاً : واحتساباً من أنفسهم .

وقال الشعبي أيضاً والضحاك ، والكلبي : وتصديقاً ، أي : يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم .

وقال ابن جبير ، وأبو مالك : تحقيقاً في دينهم .

وقال ابن كيسان : إخلاصاً وتوطيداً لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم .

وقال الزجاج : ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها .

وقال الشعبي أيضاً : عزماً .

وقال يمان أيضاً : بصيرة .

وقال مجاهد ، والحسن : معناه أنهم يثبتون ، أي يضعون صدقاتهم .

قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه ، وإن خالطه شك أمسك .

وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله : وتثبيتاً .

بمعنى : تثبتاً ، فيكون لازماً .

قال : والمصادر قد تختلف ، ويقع بعضها موقع بعض ، ومنه قوله : { وتبتل إليه تبتيلا } أي تبتلاً وردّ هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدّم على المصدر نحو الآية ، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل ، تقول : إن ثبت فعل لازم معناه : تمكن ، ورسخ ، وتحقق .

وثبت معدى بالتضعيف ، ومعناه : مكن ، وحقق .

قال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم :

فثبَّت الله ما آتاك من حسن***

تثبيت عيسى ونصراً كالذي نصروا

فالمعنى ، والله أعلم ، أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضاً ، لأن مثل هذا العمل شاق على النفس ، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان ، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب ، لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له .

وإذا كان التثبيت مسنداً إليهم كانت : من ، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر ، وتكون للتبعيض ، مثلها في : هزّ من عطفه ، و : حرك من نشاطه ، وإن كان التثبيت مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت : من ، في موضع نصب أيضاً صفة للمصدر تقديره : كائناً من أنفسهم .

قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟

قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } انتهى .

والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرك إلاَّ هي ، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب ، فهي الباعثة له على ذلك ، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها .

وقرأ عاصم الجحدري { كمثل حبة } بالحاء والباء في : بربوة ، ظرفية ، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف .

وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها .

كما قال الشاعر ، وهو الخليل بن أحمد ، رحمه الله تعالى :

ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت***

عن المعاطش واستغنت بسقياها

فمال بالخوخ والرمان أسفلُها***

واعتم بالنخل والزيتون أعلاها

وتفسير ابن عباس : الربوة ، بالمكان المرتفع الذي لا يجري فيه الأنهار ، إنما يريد المذكورة لقوله : { أصابها وابل } فدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد أن جنس الربوة لا يجري فيها ماء ، ألا ترى قوله تعالى : { إلى ربوة ذات قرار ومعين } وخصت بأن سقياها الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيراً .

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : المفسرون قالوا : البستان إذا كان في ربوة كان أحسن ، وأكثر ريعاً ، وفيه لي أشكال ، لأنه يكون فوق الماء ، ولا ترتفع إليه الأنهار ، وتضربه الرياح كثيراً ، فلا يحسن ريعه .

وإذا كان في وهدة انصبت إليه المياه ، ولا تصل إليه آثار الرياح ، فلا يحسن أيضاً ريعه ، وإنما يحسن ريعه في أرض مستوية ، فالمراد بالربوة ليس ما ذكروه ، وإنما هو كون الأرض طيبة بحيث إذا نظر نزول المطر عليها انتفخت وربت ، فيكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها .

ويؤيده : { وترى الأرض هامدة } الآية .

وأنه في مقابلة المثل الأول ، والأول لا يؤثر فيه المطر ، وهو : الصفوان .

انتهى كلامه .

وفيه بعض تلخيص ، وما قاله قاله قبله الحسن .

الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء .

وقال الشاعر في رياض الحزن :

ما روضة من رياض الحَزْنِ معشبة***

خضراء جاد عليها وابل هطل

ولا يراد : برياض الحزن ، رياض الربا ، كما زعم الطبري ، بل : رياض الحزن هي المنسوبة إلى نجد ، ونجد يقال لها : الحزن ، وإنما نسبت الروضة إلى الحزن وهو نجد ، لأن نباته أعطر ، ونسيمه أبرد ، وأرق .

فهي خير من رياض تهامة .

وقرأ ابن عامر ، وعاصم بفتح الراء ، وباقي السبعة بالضم .

وكذلك خلافهم في { قد أفلح } وقرأ ابن عباس بكسر الراء .

وقرأ أبو جعفر ، وأبو عبد الرحمن : برباوة ، على وزن : كراهة .

وأبو الأشهب العقيلي : برباوة ، على وزن رسالة .

{ أصابها وابل } جملة في موضع الصفة لجنة ، وبدئ بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة ، وهذا الأكثر في لسان العرب ، وبدئ بالوصف الثابت ، وهو : كونها بربوة ، ثم بالوصف العارض ، وهو { أصابها وابل } وجاء في وصف صفوان قوله : عليه تراب ، ثم عطف عليه بالفاء ، وهنا لم يعطف ، بل أخرج صفة ، وينظر ما الفرق بين الموضعين ، وجوَّز أن يكون : { أصابها وابل } حالاً من جنة لأنها نكرة ، وقد وصفت حالاً من الضمير في الجار والمجرور .

{ فآتت أكلها ضعفين } آتت بمعنى : أعطت ، والمفعول الأول محذوف ، التقدير : فآتت صاحبها ، أو : أهلها أكلها .

كما حذف في قوله { كمثل جنة } أي : صاحب أو : غارس جنة ، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر ، إذ هو معلوم ، ونصب : ضعفين ، على الحال ، ومن زعم أن : ضعفين ، مفعول ثان : لآتت ، فهو ساه ، وليس المعنى عليه ، وكذلك قول من زعم ان آتت بمعنى أخرجت ، وأنها تتعدى لواحد ، إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب ، ونسبة الإيتاء إليها مجاز ، والأكل بضم الهمزة الشيء المأكول ، وأريد هنا الثمر ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الدابة ، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بضم الهمزة ، وإسكان الكاف ، وكذا كل مضاف إلى مؤنث .

ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني ، أو إلى مكني مذكر ، والباقون بالتثقيل .

ومعنى : ضعفين : مِثْلا ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وبكونه في ربوة ، لأن ريع الربا أكثر ، ومن السيل والبرد أبعد ، وقيل : ضعفي غيرها من الأرضين ، وقيل : أربعة أمثالها ، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه .

وقال أبو مسلم : ثلاثة أمثالها ، قال تاج القراء .

وليس لهذا في العربية وجه ، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد .

وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين .

ويحتمل عندي أن يكون قوله : ضعفين ، مما لا يزاد به شفع الواحد ، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير .

وكأنه قيل : فآتت أكلها ضعفين ، ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة ، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين ، بل جاء تضاعف أضعافاً كثيرة ، وعشر أمثالها ، وسبع مائة وأزيد .

{ فإن لم يصبها وابل فطل } قال ابن عيسى : فيه إضمار ، التقدير : فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة***

أي : لم تكن تلدني ، والمعنى : إن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك أكرم الأرض وطيبها ، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر .

وقيل : المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها ، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل ، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر .

قال الماوردي : زرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً ، وفيه : وإن قل تماسك ونفع . انتهى .

ودعوى التقديم والتأخير في الآية ، على ما قاله بعضهم ، من أن المعنى أصابها وابل .

فإن لم يصبها وابل فطل***

فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل ايتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل ، لا حاجة إليها .

والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر ، فينزه القرآن عن ذلك .

قال زيد بن أسلم : المضروب به المثل أرض مصر ، إن لم يصبها مطر زكت ، وإن أصابها مطر أضعفت .

قال الزمخشري : مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة ، كانت أو قليلة ، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ، زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده .

انتهى كلامه .

وقال الماوردي قريباً من كلام الزمخشري ، قال : أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر ، كثير النفع ، وقليل البر مثل زرع الطل ، قليل النفع .

فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره ، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر .

انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : شبه نموّ نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو ، بنموّ نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً .

وقال ابن الجوزي : معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص . انتهى .

وقوله : فطل جواب للشرط ، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة ، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، أي : فطل يصيبها ، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط .

وذكر بعضهم أن هذا من مسوّغات جواز الابتداء بالنكرة ، ومثله ما جاء في المثل : إن ذهب عير فعير في الرباط .

وقدره غير المبرد : خبر مبتدأ محذوف .

أي : فالذي يصيبها ، أو : فمصيبها طلٌ ، وقدره بعضهم فاعلاً ، أي فيصيبها طل ، وكل هذه التقادير سائغة .

والآخر يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جواباً ، وإبقاء معمول لبعضها ، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ ، كقوله تعالى { ومن عاد فينتقم الله منه } أي فهو ينتقم ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي : فهي ، أي : الجنة يصيبها طل ، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلاَّ إلى حذف أحد جزئي الجملة ، ونظير ما في الآية قوله :

ألا إن لا تكن إبل فمعزى***

كأن قرون جلتها العصيّ

{ والله بما تعملون بصير } قرأ الزهري ، بالياء ، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين ، ويحتمل أن يكون عاماً فلا يختص بالمنافقين ، بل يعود على الناس أجمعين .

وقرأ الجمهور بالتاء ، على الخطاب ، وفيه التفات .

والمعنى : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص ، وفيه وعد ووعيد .