الربوة : قال الخليل : أرض مرتفعة طيبة ، ويقال فيها : الرباوة ، وتثلث الراء في اللغتين ، ويقال : رابية .
وقال الأخفش : ويختار الضم في ربوة لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلاَّ الربا ، وأصله من ربا الشيء زاد وارتفع .
وتفسير بالسدّي بأنها : ما انخفض من الأرض ليس بشيء .
الطل : المستدق من القطر الخفيف ، هذا مشهور اللغة .
وقال قوم ، منهم مجاهد : الطل الندى ، وهذا تجوّز .
وفي ( الصحاح ) : الطل أضعف المطر ، والجمع طلال ، يقال : طلت الأرض وهو مطلوب .
ولما نزلنا منزلاً طله الندى***
ويقال أيضاً : أطلها الندى ، والطلة الزوجة .
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } لما ضرب مثل : من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضدّه بتمثيل محسوس للذهن ، حتى يتصوّر السامع تفاوت ما بين الضدّين ، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن .
ولما وصف صاحب النفقة بوصفين ، قابل ذلك هنا بوصفين ، فقوله : { ابتغاء مرضات الله } مقابل لقوله : { رئاء الناس } وقوله : { وتثبيتاً من أنفسهم } مقابل لقوله : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده ، ولا يكون إلاَّ عن يقين بالآخرة .
والتقادير الثلاثة التي في قوله : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } جارية هنا ، أي : ومثل المنافقين كمثل غارس حبة ، أو : مثل نفقتهم كحبة ، أو : مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها .
وجوّزوا في : ابتغاء أن يكون مصدراً في موضع الحال .
أي : مبتغين ، وأن يكون مفعولاً من أجله ، وكذلك : وتثبيتاً .
قال ابن عطية : ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولاً من أجله ، لعطف ، وتثبيتاً عليه ، ولا يصح في : وتثبيتاً أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت .
وقال مكي في ( المشكل ) : كلاهما مفعول من أجله ، وهو مردود بما بيناه .
وتثبيت ، مصدر : ثبت ، وهو متعد ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره الثواب من الله تعالى ، أي : وتثبيتاً وتحصيلاً من أنفسهم الثواب على تلك النفقة ، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملاً على الإنفاق في سبيل الله .
ومن قدر المفعول غير ذلك أي : وتثبيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، وجعله من أنفسهم على أن تكون : من ، بمعنى : اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : فعلت ذلك كسراً من شهوتي ، أي : لشهوتي ، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له .
قال الشعبي ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو صالح ، وابن زيد : معناه وتيقناً ، أي : إن نفوسهم لها بصائر متأكدة ، فهي تثبتهم على الإنفاق .
ويؤكده قراءة من قرأ : أو تبييناً من أنفسهم ، وقال قتادة أيضاً : واحتساباً من أنفسهم .
وقال الشعبي أيضاً والضحاك ، والكلبي : وتصديقاً ، أي : يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم .
وقال ابن جبير ، وأبو مالك : تحقيقاً في دينهم .
وقال ابن كيسان : إخلاصاً وتوطيداً لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم .
وقال الزجاج : ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها .
وقال مجاهد ، والحسن : معناه أنهم يثبتون ، أي يضعون صدقاتهم .
قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه ، وإن خالطه شك أمسك .
وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله : وتثبيتاً .
بمعنى : تثبتاً ، فيكون لازماً .
قال : والمصادر قد تختلف ، ويقع بعضها موقع بعض ، ومنه قوله : { وتبتل إليه تبتيلا } أي تبتلاً وردّ هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدّم على المصدر نحو الآية ، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل ، تقول : إن ثبت فعل لازم معناه : تمكن ، ورسخ ، وتحقق .
وثبت معدى بالتضعيف ، ومعناه : مكن ، وحقق .
قال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فالمعنى ، والله أعلم ، أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضاً ، لأن مثل هذا العمل شاق على النفس ، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان ، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب ، لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له .
وإذا كان التثبيت مسنداً إليهم كانت : من ، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر ، وتكون للتبعيض ، مثلها في : هزّ من عطفه ، و : حرك من نشاطه ، وإن كان التثبيت مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت : من ، في موضع نصب أيضاً صفة للمصدر تقديره : كائناً من أنفسهم .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟
قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } انتهى .
والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرك إلاَّ هي ، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب ، فهي الباعثة له على ذلك ، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها .
وقرأ عاصم الجحدري { كمثل حبة } بالحاء والباء في : بربوة ، ظرفية ، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف .
وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها .
كما قال الشاعر ، وهو الخليل بن أحمد ، رحمه الله تعالى :
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت***
فمال بالخوخ والرمان أسفلُها***
وتفسير ابن عباس : الربوة ، بالمكان المرتفع الذي لا يجري فيه الأنهار ، إنما يريد المذكورة لقوله : { أصابها وابل } فدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد أن جنس الربوة لا يجري فيها ماء ، ألا ترى قوله تعالى : { إلى ربوة ذات قرار ومعين } وخصت بأن سقياها الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيراً .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : المفسرون قالوا : البستان إذا كان في ربوة كان أحسن ، وأكثر ريعاً ، وفيه لي أشكال ، لأنه يكون فوق الماء ، ولا ترتفع إليه الأنهار ، وتضربه الرياح كثيراً ، فلا يحسن ريعه .
وإذا كان في وهدة انصبت إليه المياه ، ولا تصل إليه آثار الرياح ، فلا يحسن أيضاً ريعه ، وإنما يحسن ريعه في أرض مستوية ، فالمراد بالربوة ليس ما ذكروه ، وإنما هو كون الأرض طيبة بحيث إذا نظر نزول المطر عليها انتفخت وربت ، فيكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها .
ويؤيده : { وترى الأرض هامدة } الآية .
وأنه في مقابلة المثل الأول ، والأول لا يؤثر فيه المطر ، وهو : الصفوان .
وفيه بعض تلخيص ، وما قاله قاله قبله الحسن .
الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء .
ما روضة من رياض الحَزْنِ معشبة***
ولا يراد : برياض الحزن ، رياض الربا ، كما زعم الطبري ، بل : رياض الحزن هي المنسوبة إلى نجد ، ونجد يقال لها : الحزن ، وإنما نسبت الروضة إلى الحزن وهو نجد ، لأن نباته أعطر ، ونسيمه أبرد ، وأرق .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم بفتح الراء ، وباقي السبعة بالضم .
وكذلك خلافهم في { قد أفلح } وقرأ ابن عباس بكسر الراء .
وقرأ أبو جعفر ، وأبو عبد الرحمن : برباوة ، على وزن : كراهة .
وأبو الأشهب العقيلي : برباوة ، على وزن رسالة .
{ أصابها وابل } جملة في موضع الصفة لجنة ، وبدئ بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة ، وهذا الأكثر في لسان العرب ، وبدئ بالوصف الثابت ، وهو : كونها بربوة ، ثم بالوصف العارض ، وهو { أصابها وابل } وجاء في وصف صفوان قوله : عليه تراب ، ثم عطف عليه بالفاء ، وهنا لم يعطف ، بل أخرج صفة ، وينظر ما الفرق بين الموضعين ، وجوَّز أن يكون : { أصابها وابل } حالاً من جنة لأنها نكرة ، وقد وصفت حالاً من الضمير في الجار والمجرور .
{ فآتت أكلها ضعفين } آتت بمعنى : أعطت ، والمفعول الأول محذوف ، التقدير : فآتت صاحبها ، أو : أهلها أكلها .
كما حذف في قوله { كمثل جنة } أي : صاحب أو : غارس جنة ، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر ، إذ هو معلوم ، ونصب : ضعفين ، على الحال ، ومن زعم أن : ضعفين ، مفعول ثان : لآتت ، فهو ساه ، وليس المعنى عليه ، وكذلك قول من زعم ان آتت بمعنى أخرجت ، وأنها تتعدى لواحد ، إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب ، ونسبة الإيتاء إليها مجاز ، والأكل بضم الهمزة الشيء المأكول ، وأريد هنا الثمر ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الدابة ، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بضم الهمزة ، وإسكان الكاف ، وكذا كل مضاف إلى مؤنث .
ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني ، أو إلى مكني مذكر ، والباقون بالتثقيل .
ومعنى : ضعفين : مِثْلا ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وبكونه في ربوة ، لأن ريع الربا أكثر ، ومن السيل والبرد أبعد ، وقيل : ضعفي غيرها من الأرضين ، وقيل : أربعة أمثالها ، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه .
وقال أبو مسلم : ثلاثة أمثالها ، قال تاج القراء .
وليس لهذا في العربية وجه ، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد .
وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين .
ويحتمل عندي أن يكون قوله : ضعفين ، مما لا يزاد به شفع الواحد ، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير .
وكأنه قيل : فآتت أكلها ضعفين ، ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة ، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين ، بل جاء تضاعف أضعافاً كثيرة ، وعشر أمثالها ، وسبع مائة وأزيد .
{ فإن لم يصبها وابل فطل } قال ابن عيسى : فيه إضمار ، التقدير : فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة***
أي : لم تكن تلدني ، والمعنى : إن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك أكرم الأرض وطيبها ، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر .
وقيل : المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها ، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل ، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر .
قال الماوردي : زرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً ، وفيه : وإن قل تماسك ونفع . انتهى .
ودعوى التقديم والتأخير في الآية ، على ما قاله بعضهم ، من أن المعنى أصابها وابل .
فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل ايتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل ، لا حاجة إليها .
والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر ، فينزه القرآن عن ذلك .
قال زيد بن أسلم : المضروب به المثل أرض مصر ، إن لم يصبها مطر زكت ، وإن أصابها مطر أضعفت .
قال الزمخشري : مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة ، كانت أو قليلة ، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ، زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده .
وقال الماوردي قريباً من كلام الزمخشري ، قال : أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر ، كثير النفع ، وقليل البر مثل زرع الطل ، قليل النفع .
فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره ، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر .
وقال ابن عطية : شبه نموّ نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو ، بنموّ نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً .
وقال ابن الجوزي : معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص . انتهى .
وقوله : فطل جواب للشرط ، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة ، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، أي : فطل يصيبها ، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط .
وذكر بعضهم أن هذا من مسوّغات جواز الابتداء بالنكرة ، ومثله ما جاء في المثل : إن ذهب عير فعير في الرباط .
وقدره غير المبرد : خبر مبتدأ محذوف .
أي : فالذي يصيبها ، أو : فمصيبها طلٌ ، وقدره بعضهم فاعلاً ، أي فيصيبها طل ، وكل هذه التقادير سائغة .
والآخر يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جواباً ، وإبقاء معمول لبعضها ، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ ، كقوله تعالى { ومن عاد فينتقم الله منه } أي فهو ينتقم ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي : فهي ، أي : الجنة يصيبها طل ، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلاَّ إلى حذف أحد جزئي الجملة ، ونظير ما في الآية قوله :
{ والله بما تعملون بصير } قرأ الزهري ، بالياء ، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين ، ويحتمل أن يكون عاماً فلا يختص بالمنافقين ، بل يعود على الناس أجمعين .
وقرأ الجمهور بالتاء ، على الخطاب ، وفيه التفات .
والمعنى : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص ، وفيه وعد ووعيد .