البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

التيمم : القصد يقال أمّ كردّ .

وأمم كأخر ، وتيمم بالتاء والياء ، وتأمّم بالتاء والهمزة ، وكلها بمعنى .

وقال الخليل أممته قصدت أمامه ، ويممته قصدته من أي جهة كانت .

الخبيث : الرديء وهو ضد الطيب اسم فاعل من خبث .

الإغماض : التساهل يقال : أغمض في حقه تساهل فيه ورضى به ، والإغماض تغميض العين ، وهو كالإغضاء .

وأغمض الرجل أتى غامضاً من الأمر ، كما يقال : أعمن وأعرق وأنجد ، أي : أتى عمان والعراق ونجداً ، وأصل هذه الكلمة من الغموض وهو : الخفاء ، غمض الشيء يغمض غموضاً : خفي ، وإطباق الجفن إخفاء للعين ، والغمض المتطامن الخفي من الأرض .

الحميد : المحمود فعيل بمعنى مفعول ، ولا ينقاس ، وتقدّمت أقسام فعيل في أول هذه السورة .

وتفسير الحمد في أوّل سورته .

{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } تضافرت النصوص في الحديث على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم لما أمروا بالصدقة كانوا يأتون بالأقناء من التمر فيعلقونها في المسجد ليأكل منها المحاويج ، فجاء بعض الصحابة بحشف ، وفي بعض الطرق : بشيص ، وفي بعضها : برديء ، وهو يرى أن ذلك جائز ، فنزلت .

وهذا الخطاب بالأمر بالإنفاق عامّ لجميع هذه الأمّة .

قال علي ، وعبيدة السلماني ، وابن سيرين : هي في الزكاة المفروضة ، وأنه كما يجوز التطوّع بالقليل فله أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة ، فالأمر على هذا للوجوب .

والظاهر من قول البراء بن عازب ، والحسن ، وقتادة : أنها في التطوع ، وهو الذي يدل عليه سبب النزول ندبوا إلى أن لا يتطوّعوا إلا بجيد مختار .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله وحث عليها ، وقبح المنة ونهى عنها ، ثم ذكر القصد فيها من الرياء وابتغاء رضا الله ، ذكر هنا وصف المنفق من المختار ، وسواء كان الأمر للوجوب أو للندب .

والأكثرون على أن : { طيبات ما كسبتم } هو الجيد المختار ، وأن الخبيث هو الرديء .

وقال ابن زيد : من طيبات ، أي : الحلال والخبيث الحرام ، وقال علي : هو الذهب والفضة .

وقال مجاهد : هو أموال التجارة .

قال ابن عطية : قوله : { من طيبات } يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط ، ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنه في المكسوب عاماً ، وتقريراً للنعمة .

كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز ، وسقيته من مروي الماء ، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة ، والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن من خبيث .

انتهى كلامه .

وظاهر قوله : { ما كسبتم } عموم كل ما حصل بكسب من الإنسان المنفق ، وسعاية وتحصيل بتعب ببدن ، أو بمقاولة في تجارة .

وقيل : هو ما استقر عليه الملك من حادث أو قديم ، فيدخل فيه المال الموروث لأنه مكسوب للموروث عنه .

الضمير في : كسبتمن إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، وهو الظاهر .

وقال الراغب : تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه ، فاذن الموروث معقول من فحواه . انتهى .

وهو حسن .

و : مِنْ ، للتبعيض ، وهي في موضع المفعول ، و : ما ، في { ما كسبتم } موصولة والعائد محذوف ، وجوز أن تكون مصدرية ، فيحتاج أن يكون المصدر مؤولاً بالمفعول ، تقديره : من طيبات كسبكم ، أي : مكسوبكم .

وظاهر الآية يدل على أن الأمر بالإنفاق عام في جميع أصناف الأموال الطيبة ، مجمل في المقدار الواجب فيها ، مفتقر إلى البيان بذكر المقادير ، فيصح الإحتجاج بها في إيجاب الحق فيما وقع الخلاف فيه ، نحو : أموال التجارة ، وصدقة الخيل ، وزكاة مال الصبي ، والحلي المباح اللبس غير المعد للتجارة ، والعروض ، والغنم ، والبقر المعلوفة ، والدين ، وغير ذلك مما اختلف فيه .

وقال خويزمنداذ : في الآية دليل على جواز أكل الوالد من مال الولد ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من مال أولادكم هنيأً » انتهى .

وروت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم : « أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه »

{ ومما أخرجنا لكم من الأرض } يعني من أنواع الحبوب والثمار والمعادن والركاز ، وفي قوله : أخرجنا لكم ، امتنان وتنبيه على الإحسان التام كقوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } والمراد : من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة ما قبله وما بعده عليه ، وكرر حرف الجر على سبيل التوكيد ، أو إشعاراً بتقدير عامل آخر ، حتى يكون الأمر مرتين .

وفي قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } دلالة على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من قليل وكثير من سائر الأصناف لعموم الآية ، إذ قلنا إن الأمر للوجوب ، وبين العلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرجت الأرض تذكر في كتب الفقه .

{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } هذا مؤكد للأمر ، إذ هو مفهوم من قوله : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } وفي هذا طباق بذكر الطيبات والخبيث .

وقرأ البزي : ولا تيمموا ، بتشديد التاء ، أصله : تتيمموا ، فأدغم التاء في التاء ، وذلك في مواضع من القرآن ، وقد حصرتها في قصيدتي في القراآت المسماة ( عقدة اللآلىء ) وذلك في أبيات وهي :

تولوا بأنفال وهود هما معا***

ونور وفي المحنه بهم قد توصلا

تنزل في حجر وفي الشعرا معاً***

وفي القدر في الأحزاب لا أن تبدّلا

تبرجن مع تناصرون تنازعوا***

تكلم مع تيمموا قبلهن لا

تلقف أنى كان مع لتعارفوا***

وصاحبتيها فتفرّق حصلا

بعمران لا تفرقوا بالنساء أتى***

توفاهم تخيرون له انجلا

تلهى تلقونه تلظى تربصو***

ن زد لا تعارفوا تميز تكملا

ثلاثين مع احدى وفي اللات خلفه***

تمنون مع ما بعد ظلتم تنزلا

وفي بدئه خفف ، وإن كان قبلها***

لدى الوصل حرف المدِّ مُدَّ وطَوِّلا

وروي عن أبي ربيعة ، عن البزي : تخفيف التاء كباقي القراء ، وهذه التاآت منها ما قبله متحرك ، نحو : { فتفرق بكم } { فإذا هي تلقف } ومنها ما قبله ساكن من حرف المد واللين نحو : { ولا تيمموا } ومنها ما قبله ساكن غير حرف مدّولين نحو : { فإن تولوا } { ناراً تلظى } { إذ تلقونه } { هل تربصون } قال صاحب ( الممتع ) : لا يجيز سيبويه إسكان هذه التاء في يتكلمون ونحوه ، لأنها إذا سكنت احتيج لها ألف وصل ، وألف الوصل لا تلحق الفعل المضارع ، فإذا اتصلت بما قبلها جاز ، لأنه لا يحتاج إلى همزة وصل .

إلاَّ أن مثل { إن تولوا } و { إذ تلقونه } لا يجوز عند البصريين على حال لما في ذلك من الجمع بين الساكنين ، وليس الساكن الأول حرف مدّ ولين .

انتهى كلامه .

وقراءة البزي ثابتة تلقتها الأمة بالقبول ، وليس العلم محصوراً ولا مقصوراً على ما نقله وقاله البصريون ، فلا تنظر إلى قولهم : إن هذا لا يجوز .

وقرأ عبد الله : ولا تأمموا ، من : أممت ، أي : قصدت .

وقرأ ابن عباس ، والزهري ، ومسلم بن جندب : تيمموا .

وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله ولا تأمّوا ، من : أممت ، أي : قصدت ، والخبيث والطيب صفتان غالبتان لا يذكر معهما الموصوف إلاَّ قليلا ، ولذلك جاء : { والطيبون للطيبات } وجاء : { والخبيثون للخبيثات } وقال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } وقال صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بالله من الخبث والخبائث »

و : منه ، متعلق بقوله : تنفقون ، والضمير في : منه ، عائد على الخبيث .

و : تنفقون ، حال من الفاعل في : تيمموا ، قيل : وهي حال مقدرة ، لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، لأن في الكلام ضميراً يعود عليه ، وأجاز قوم أن يكون الكلام في قوله : الخبيث ، ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث ، فقال : تنفقون منه ، وأنتم لا تأخذونه إلاَّ إذا أغمضتم ، أي تساهلتم ، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، وفيه تنبيه على أن المنهي عنه هو القصد للرديء من جملة ما في يده ، فيخصه بالإنفاق في سبيل الله ، وأما إنفاق الرديء لمن ليس له غيره ، أو لمن لا يقصده ، فغير منهي عنه .

{ ولستم بآخذيه } .

وقيل : هذه الجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : الواو للحال ، فالجملة في موضع نصب .

قال البراء ، وابن عباس ، والضحاك ، وغيرهم : معناه : ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس ، إلاَّ بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي : فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم .

وقال الحسن : المعنى : ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع إلاَّ أن يهضم لكم من ثمنه .

ورُوي نحوه عن علي .

وقال البراء أيضاً : معناه : ولستم بآخذيه لو أهدي لكم إلاَّ أن تغمضوا ، أي : تستحوا من المهدي أن تقبلوا من ما لا حاجة لكم به ، ولا قدر له في نفسه .

وقال ابن زيد : ولستم بآخذي الحرام إلاَّ أن تغمضوا في مكروهه .

والظاهر عموم نفي الأخذ بأي طريق أخذ الخبيث ، من أخذ حق ، أوهبة .

والهاء في : بآخذيه ، عائدة على الخبيث ، وهي مجرورة بالإضافة ، وأن كانت من حيث المعنى مفعولة .

قال بعض المعربين : والهاء في موضع نصب : بآخذين ، والهاء والنون لا يجتمعان ، لأن النون زائدة ، وهاء الضمير زائدة ومتصلة كاتصال النون ، فهي لا تجتمع مع المضمر المتصل .

انتهى كلامه .

وهو قول الأخفش : أن التنوين والنون قد تسقطان للطافة الضمير لا للإضافة ، وذلك في نحو : ضاربك ، فالكاف ضمير نصب ، ومذهب الجمهور أنه لا يسقط شيء منها للطافة الضمير ، وهذا مذكور في النحو .

وقد أجاز هشام : ضاربنك ، بالتنوين ، ونصب الضمير ، وقياسه جواز إثبات النون مع الضمير ، ويمكن أن يستدل له بقوله :

هم الفاعلون الخير والآمرونه***

وقوله :

ولم يرتفق والناس محتضرونه***

{ الا أن تغمضوا فيه } موضع أن نصب أو خفض عند من قدره إلاَّ بأن تغمضوا ، فحذف الحرف ، إذ حذفه جائز مطرد ، وقيل : نصب بتغمضوا ، وهو موضع الحال ، وقد قدمنا قبل ، أن سيبويه لا يجيز انتصاب أن والفعل مقدراً بالمصدر في موضع الحال ، وقال الفراء : المعنى معنى الشرط والجزاء ، لأن معناه إن أغمضتم أخذتم ، ولكن إلاَّ وقعت على أن ففتحتها ، ومثله : { الا أن يخافه } و { الا أن يعفون } هذا كله جزاء ، وأنكر أبو العباس وغيره قول الفراء ، وقالوا : أن ، هذه لم تكن مكسورة قط ، وهي التي تتقدّر ، هي وما بعدها ، بالمصدر ، وهي مفتوحة على كل حال ، والمعنى : إلاَّ بإغماضكم .

وقرأ الجمهور : تغمضوا ، من أغمض ، وجعلوه مما حذف مفعوله ، أي : تغمضوا أبصاركم أو بصائركم ، وجوزوا أن يكون لازماً مثل : أغضى عن كذا ، وقرأ الزهري تغمضوا بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشدودة ، ومعناه معنى قراءة الجمهور .

وروي عنه : تغمضوا ، بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم ، مضارع : غمض ، وهي لغة في أغمض ، ورويت عن اليزيدي : تغمضوا ، بفتح وضم الميم ، ومعناه : إلاَّ أن يخفى عليكم رأيكم فيه .

وروي عن الحسن : تغمضوا مشددة الميم مفتوحة .

وقرأ قتادة تغمضوا ، بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم ، مخففاً ، ومعناه : إلاَّ أن يغمض لكم .

وقال أبو الفتح : معناه إلاَّ أن توجدوا قد أغمصتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم ، كما تقول : أحمد الرجل أصيب محموداً ، وقيل : معنى قراءة قتادة : إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه .

{ واعلموا أن الله غني حميد } أي : غني عن صدقاتكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، حميد أي : محمود على كل حال ، إذ هو مستحق للحمد .

وقال الحسن : يستحمد إلى خلقه ، أي : يعطيهم نعماً يستدعي بها حمدهم .

وقيل : مستحق للحمد على ما تعبدكم به .