البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

{ لله ما في السموات وما في الأرض } قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين .

ومناسبتها ظاهرة ، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : { وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدّة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة .

فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته .

ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين .

والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكاً له لأنه تعالى هو المنشىء له ، الخالق .

وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليباً لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة .

وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة .

{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئاً عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام .

بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلاَّ بعد إيجاده ، فعلمه محدث .

وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة ، أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب ، قوله : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }

وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد .

وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم .

انتهى كلامه .

وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم » وقال : « إن تظهروا العمل أو تسروه »

وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق .

ودلت على أن الثواب والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية .

وقال الزمخشري : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : فيغفر لمن يشاء ، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه ، أو أضمر .

ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار . انتهى .

وهذه نزعة إعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرّاً على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }

ثم قال الزمخشري : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه .

وعن عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوّة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلاَّ على تجوز . انتهى .

وقال بعضهم : إن هذه الآية مسنوخة بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وينبغي أن يجعل هذا تخصيصاً إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت : ما ، في قوله : { ما في أنفسكم } والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما عملوا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها .

وروي هذا المعنى عن عائشة .

ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفساً إلاَّ وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم .

والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم : يحاسبكم ، على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح .

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : فيغفر لمن يشاء ويعذب ، بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف .

والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على تقدّم .

وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفاً على الجواب .

وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : أن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر :

فان يهلك أبو قابوس يهلك***

ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش***

أجب الظهر ليس له سنام

يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه .

وقرأ الجعفي ، وخلاد ، وطلحة بن مصرف : يغفر لمن يشاء ، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله .

قال ابن جني : هي على البدل من : يحاسبكم ، فهي تفسير للمحاسبة . انتهى .

وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله

{ ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب }

وقال الزمخشري : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه .

وأحب زيداً عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان .

انتهى كلامه .

وفيه بعض مناقشة .

أولاً : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب ، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب .

وأما الثانية : فلقوله بعد ان ذكر بدل البعض والكل : وبدل الاشتمال : هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان .

أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزيء ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلاَّ بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض .

قال الزمخشري ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ .

قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأً فاحشاً ، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو .

انتهى كلامه .

وذلك على عادته في الطعن على القراء .

وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأً فاحشاً إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وسيبويه وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون قال أبو سعيد .

ولا نعلم أحداً خالفه إلاَّ يعقوب الحضرمي ، وإلاَّ ما روي عن أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركاً ما قبلها ، نحو : { يغفر لمن } { والعمر لكيلا } { واستغفر لهم الرسول } فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو { الأنهار لهم } و { النار ليجزي } فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو { من مصر لامرأته } { والأبرار لفي نعيم } { ولن تبور ليوفيهم } { والحمير لتركبوها } فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلاَّ ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعاً على الإدغام نحو { ويغفر لكم } انتهى .

وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعاً ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان .

والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل باباً قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط ، والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي .

وكبراء أهل الكوفة : الرواسي ، والكسائي ، والفراء ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ، إذ من علم حجة على من لم يعلم .

وأما قول الزمخشري : إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت في اللغات .

قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه .

وقال الثوري : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير .

وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق .

قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت تكليفاً .

{ والله على كل شيء قدير } .

لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة .