يقال : قسا يقسو قسواً وقسوة وقساوة ، وقسا وجسا وعساً متقاربة .
الشق ، أن يجعل الشيء شقين ، وتشقق منه .
الخشية : الخوف مع تعظم المخشي .
الغفلة والسهو والنسيان متقاربة .
يقال منه : غفل يغفل ، ومكان غفل لم يعلم به .
{ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } ، قال الزمخشري ، معنى ثم قست : استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ، ثم أنتم تمترون . انتهى .
وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد ، ولذلك قيل عنه في قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم ، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدّم مما لا يقتضي وقوعها ، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر ، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى ، والتسليم لأقضيته ، فصدر مهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها ، بما شاهدت ، والتعنت والتكذيب ، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل ، وأخبر بمن قتله قالوا : كذب .
والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل ، قاله ابن عباس ، وهم الذين قتلوه ، وأنكروا قتله .
وقيل : قلوب بني إسرائيل جميعاً قست بمعاصيهم وما ارتكبوه ، قاله أبو العالية وغيره .
وكنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار ، وأن المواعظ لا تجول فيها .
وأتى بمن في قوله : { من بعد ذلك } إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق ، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة ، فيتدافع معنى ثم ، ومعنى من ، فلا بد من تجوّز في أحدهما .
والتجوز في ثم أولى ، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة ، فينحرفون إثرها إلى المعصية عناداً وتكذيباً ، والإشارة بذلك قيل : إلى إحياء القتيل ، وقيل : إلى كلام القتيل ، وقيل : إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، قاله الزجاج .
{ فهي كالحجارة } : يريد في القسوة .
وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة ، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة ، ويعني أن قلوبهم صلبة ، لا تخلخلها الخوارق ، كما أن الحجر خلق صلباً .
وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض ، بل خلق ذلك فيها خلقاً أولياً ، كما أن صلابة الحجر كذلك .
والكاف المفيدة معنى التشبيه : حرف وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين ، خلافاً لمن ادّعى أنها تكون اسماً في الكلام ، وهو عن الأخفش .
فتعلقه هنا بمحذوف ، التقدير : فهي كائنة كالحجارة ، خلافاً لابن عصفور ، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء ، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو .
والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس .
وجمعت الحجارة ولم تفرد ، فيقال كالحجر ، فيكون أخصر ، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع ، لأنه قوبل الجمع بالجمع ، لأن قلوبهم جمع ، فناسب مقابلته بالجمع ، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة .
فلو قيل : كالحجر ، لأفهم ذلك عدم التفاوت ، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك .
{ أو أشدّ قسوة } ، أو : بمعنى الواو ، أو بمعنى أو للابهام ، أو للإباحة ، أو للشك ، أو للتخيير ، أو للتنويع ، أقوال : وذكر المفسرون مثلاً لهذه المعاني ، والأحسن القول الأخير .
وكأن قلوبهم على قسمين : قلوب كالحجارة قسوة ، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة ، فأجمل ذلك في قوله : { ثم قست قلوبكم } ، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة ، وإلى أشدّ منها ، إذ ما كان أشدّ ، كان مشاركاً في مطلق القسوة ، ثم امتاز بالأشدية .
وانتصاب قسوة على التمييز ، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل ، لأن كلاً منهما ينتصب عنه التمييز .
تقول : زيد كعمرو حلماً ، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل ، منقول من المبتدأ ، وهو نقل غريب ، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه .
تقول : زيد أحسن وجهاً من عمرو ، وتقديره : وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، فأخرت وجهاً وأقمت ما كان مضافاً مقامه ، فارتفع بالابتداء ، كما كان وجه مبتدأ ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك : من وجه عمرو ، وإقامة عمرو مقامه ، فقلت : من عمرو ، وإنما كان الأصل ذلك ، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه ، ونظير هذا : مررت بالرجل الحسن الوجه ، أو الوجه أصل هذا الرفع ، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه ، وإنما أوضحنا هذا ، لأن ذكر مجيء التمييز منقولاً من المبتدأ غريب ، وأفرد أشدّ ، وإن كانت خبراً عن جمع ، لأن استعمالها هنا هو بمن ، لكنها حذفت ، وهو مكان حسن حذفها ، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن المبتدأ وعطف ، أو أشد ، على قوله : كالحجارة ، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد ، كما تقول : زيد على سفر ، أو مقيم ، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب ، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون التقدير : أو هي أشدّ قسوة ، فيصير من عطف الجمل .
والثاني : أن يكون ، التقدير : أو مثل أشدّ ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه ، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب ، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة ، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف .
ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش ، بنصب الدال عطفاً على ، كالحجارة ، قاله الزمخشري .
وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة .
وأما على قراءة الرفع ، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه ، ولا إضمار فيه ، فكان أرجح .
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله : إنه معطوف على الكاف ، فقال : هو على مذهب الأخفش ، لا على مذهب سيبويه ، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً إلا في الشعر ، ولا يجيز ذلك في الكلام ، فكيف في القرآن ؟ فأولى أن يكون : أشدّ ، خبر مبتدأ مضمر ، أي وهي أشدّ .
وما ذهب إليه الزمخشري صحيح ، ولا يريد بقوله : معطوف على الكاف ، أن الكاف اسم ، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور ، لأنه في موضع مرفوع ، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور .
وقوله : فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر ، أي هي أشدّ ، قد بينا أن الأولى غير هذا ، لأنه تقدير لا حاجة إليه .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال أشدّ قسوة ؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ، قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة .
ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة ، كأنه قيل : اشتدّت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشدّ قسوة .
ومعنى قوله : وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك ، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة ، والنقص مثبت .
وفي كونه من أفعل ، أو من كون ، أو من مبني للمفعول خلاف .
وقرأ أبو حياة : أو أشدّ قساوة ، وهو مصدر لقسا أيضاً .
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } : لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة ، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس في مفهوم ، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار ، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشدّ قسوة : والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ ، ولا تتأثر للزواجر ، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل ، وأنها متفاوتة في قبول ذلك ، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه .
فقد فضلت الأحجار على قلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل ، وأن قلوب هؤلاء في شدّة القساوة .
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال قوم : إن قوله : { وإن من الحجارة } إلى آخره ، هو على سبيل المثل ، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى ، وتشقق من هيبته ، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور ، والنظر في عواقب الأشياء ، ومع ذلك فقلوبكم أشدّ قسوة ، وأبعد عن الخير .
وقال قوم : ليس ذلك على جهة المثل : بل أخبر عن الحجارة بعينها ، وقسمها لهذه الأقسام ، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة .
وقرأ الجمهور : وإنّ مشدّدة ، وقرأ قتادة : وإن مخففة ، وكذا في الموضعين بعد ذلك ، وهي المخففة من الثقيلة ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون معملة ، ويكون من الحجارة في موضع خبرها ، وما في موضع نصب بها ، وهو اسمها ، واللام لام الابتداء ، أدخلت على الاسم المتأخر ، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه ، نحو قوله : { وإن لك لأجراً } ، وأعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من العرب ، وهو قولهم : إن عمرو لمنطلق ، بسكون النون ، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا ، تقول : إنك منطلق ، إلا أن ورد في الشعر .
والوجه الثاني : أن لا تكون معملة ، بل تكون ملغاة ، وما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله .
واللام في لما مختلف فيها ، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين أن المؤكدة وإن النافية ، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير .
وأكثر نحاة بغداد ، وبه قال : من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر ، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق ، وليست لام الابتداء ، وبه قال أبو علي الفارسي .
ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو .
ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني ، وهو أنها الملغاة ، وأن اللام في لما لزمت للفرق .
قال المهدوي : من خفف إن ، فهي المخففة من الثقيلة ، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما .
وقال ابن عطية : فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما .
وقال الزمخشري : وقرئ : وإن بالتخفيف ، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة ، ومنه قوله تعالى : { وإن كلّ لما جميع } وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة ، هو مذهب البصريين .
وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أنّ إن هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، فإذا قلت : إن زيد لقائم ، فمعناه عنده : ما زيد إلا قائم .
وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل ، كانت إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وإن وليها اسم ، كانت المخففة من الثقيلة .
وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل ، كانت بمعنى قد ، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو .
وقرأ الجمهور : لما بميم مخففة وهي موصولة .
وقرأ طلحة بن مصرف : لما بالتشديد ، قاله في الموضعين ، ولعله سقطت واو ، أي وفي الموضعين .
قال محمد بن عطية : وهي قراءة غير متجهة ، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإنّ بالتشديد ، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة .
أما إذا قرأ بتخفيف إن ، وهو المظنون به ذلك ، فيظهر توجيهها بعض ظهور ، إذ تكون إن نافية ، وتكون لما بمنزلة إلا ، كقوله تعالى : { إن كل نفس لما عليها حافظ } { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } في قراءة من قرأ لما بالتشديد ، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه ، التقدير : وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار ، وكذلك ما فيها ، كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، { وإن من أهل الكتاب ليؤمن به قبل موته } أي وما من أهل الكتاب أحد ، وحذف هذا المبتدأ أحسن ، لدلالة المعنى عليه ، إلا أنه يشكل معنى الحصر ، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة ، فمنها ما يتفجر منه الأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، ومنها ما يهبط من خشية الله .
وإذا حصرت ، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها ، أي تتفجر منه الأنهار ، ويتشقق منه الماء ، ويهبط من خشية الله .
ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية ، إذ كل حجر يقبل ذلك ، ولا يمتنع فيه ، إذا أرد الله ذلك .
فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير : أن يقرأ طلحة ، وإن بالتخفيف .
وأما إن صح عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد ، فيعسر توجيه ذلك .
وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية ، فلا يصح قوله ، ولا يثبت ذلك في لسان العرب .
ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد ، مع قراءة إن بالتشديد ، بأن يكون اسم إن محذوفاً لفهم المعنى ، كما حذف في قوله :
وتكون لما بمعنى حين ، على مذهب الفارسي ، أو حرف وجوب لوجوب ، على مذهب سيبويه .
والتقدير : وإن منها منقاداً ، أو ليناً ، وما أشبه هذا .
فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إن وصاحبها ، فحذف الاسم وحده أسهل .
وقرأ الجمهور : يتفجر بالياء ، مضارع تفجر .
وقرأ مالك بن دينار : ينفجر بالياء ، مضارع انفجر ، وكلاهما مطاوع .
أما يتفجر فمطاوع تفجر ، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففاً .
والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة ، والانفجار دونه ، والمعنى : إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر .
وقرأ أبيّ والضحاك : منها الأنهار .
فالقراءة الأولى حمل على المعنى ، وقراءة الجمهور على اللفظ ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى ، لأن المراد به الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفرداً لمعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحداً ، إذ ليس المعنى { وإن من الحجارة } للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار .
وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية .
وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار ، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً .
{ وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } ، التشقق : التصدّع بطول أو بعرض ، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهراً .
وقرأ الجمهور : يشقق ، بتشديد الشين ، وأصله يتشقق ، فأدغم التاء في الشين .
وقرأ الأعمش : تشقق ، بالتاء والشين المخففة على الأصل ، ورأيتها معزوّة لابن مصرّف .
وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية .
ما نصه : وقرأ ابن مصرّف : ينشقق ، بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشدّدة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوماً ، جاز الفك فصيحاً ، وهو هنا مرفوع ، فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما ، فلا يجوز .
قال أبو حاتم : لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال : تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار ، ولا يكون في تشقق .
وقال أبو جعفر النحاس : يجوز ما أنكره أبو حاتم حملاً على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها للحجارة التي تشقق ، وإمّا يشقق بالياء ، فمحمول على اللفظ .
ولم ينقل هنا أن أحداً قرأ منها الماء ، فيعيد على المعنى ، إنما نقل ذلك في قوله : لما يتفجر منه الأنهار ، فكان قوله يتفجر حملاً على اللفظ ومنها حملاً على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الأنهار ، فناسب الجمع الجمع ، ولأن الأنهار من حيث هي جمع ، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد ، وإنما تخرج الأنهار من أحجار ، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا .
وأما فيخرج منه الماء ، فالماء ليس جمعاً ، فلا يناسب في حمل منه على المعنى ، بل أجرى يشقق ، ومنه على اللفظ .
{ وإن منها لما يهبط من خشية الله } ، الهبوط هنا : التردّي من علو إلى أسفل .
وقرأ الأعمش : يهبط ، بضم الباء ، وقد تقدم أنها لغة .
واختلف المفسرون في تفسير هذا ، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة .
واختلف هؤلاء ، فقال قوم معناه : من خشية الحجارة لله تعالى ، فهي مصدر مضاف للمفعول ، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزاً قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل ، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية ، وبعضها بالإرادة ، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع ، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة .
قال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } الآية ، { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } { يا جبال أوّبي معه والطير } وفي الحديث الصحيح : " إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه ، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه " وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول : «ثوبي حجر ثوبي حجر » .
وفي الحديث عن أحد : " أن هذا جبل يحبنا ونحبه " وفي حديث حراء : " لما اهتز أسكن حراء " وفي حديث : " تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات ، وانقياد الشجر وغير ذلك .
فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة ، وصفة ناطقة ، وحركة اختيارية ، لما صدر عنها شيء من ذلك ، ولا حسن وصفها به .
وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة .
وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر أضيف إلى فاعل .
والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد ، والمراد بخشية الله : إخافته عباده ، فأطلق الخشية ، وهو يريد الإخشاء ، أي نزول البرد به ، يخوّف الله عباده ، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي .
وهذا قول متكلف ، وهو مخالف للظاهر .
والبرد ليس بحجارة ، وإن كان قد اشتدّ عند النزول ، فهو ماء في الحقيقة .
وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، وفاعله محذوف ، وهو العباد .
والمعنى : أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه .
وتحقيقه : أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى ، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط ، فكان المعنى : لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى .
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في قوله : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } عائد على القلوب ، والمعنى : أن من القلوب قلوباً تطمئن وتسكن ، وترجع إلى الله تعالى ، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى ، ويريد بذلك قلوب المخلصين .
وهذا تأويل بعيد جداً ، لأنه بدأ بقوله : { وإن من الحجارة } ، ثم قال : { وإن منها } ، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة ، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح ، والهبوط لا يليق بالقلوب ، إنما يليق بالحجارة .
وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأوّلناها .
وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة ، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض .
وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، إذ جعله دكاً .
وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى : { يريد أن ينقضّ } وكما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته *** ترى الاكم منه سجداً للحوافر
لما أتى خبر الزبير تضعضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
أي من رأى الحجر متردّياً من علوّ إلى أسفل ، تخيل فيه الخشية ، فاستعار الخشية ، كناية عن الانقياد لأمر الله ، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها .
فمن يراها يظنّ أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى .
وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات ، وذلك ممتنع عندهم .
وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث ، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة ، هي التي تسلم وتتكلم ، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش ، تنادي : اللهم صِل من وصلني ، واقطع من قطعني .
والأرحام ليست بجسم ، ولا لها إدراك ، ويستحيل أن تسجد المعاني ، أو تتكلم ، وإنما قرن الله تعالى بها ملكاً يقول ذلك القول .
وتأوّلوا : هذا جبل يحبنا ونحبه ، أي يحبه أهله ونحب أهله ، كقوله تعالى : { واسئل القرية } واختيار ابن عطية ، رحمه الله تعالى ، أن الله يخلق للحجارة قدراً مّا من الإدراك ، تقع به الخشية والحركة .
واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها ، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جداً ، وهو على حسب الترقي .
فبدأ أولاً بالذي تتفجر منه الأنهار ، أي خلق ذا خروق متسعة ، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل ، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها .
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً يسيراً ، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء .
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً عظيماً ، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل ، ثم رسخ هذا الانفعال التامّ بأن ذلك هو من خشية الله تعالى ، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه ، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد ، لأن من خشي أطاع وانقاد .
{ وما الله بغافل عما تعملون } : هذا فيه وعيد ، وذلك أنه لما قال : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } ، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة ، من مخالفة الله تعالى ، ومعاندة رسله ، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم ، بل هو تعالى يحصيها عليهم ، وإذا لم يفغل عنها كان مجازياً عليها .
والغفلة إن أريد بها السهو ، فالسهو لا يجوز على الله تعالى ، وإن أريد بها الترك عن عمد ، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به .
وعلى كلا التقديرين ، فنفى الله تعالى الغفلة عنه .
وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلاً ، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه .
وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل ، قال : لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كما ذهب إليه ، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } وقوله : { وهو يطعم ولا يطعم } فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له .
وبغافل : في موضع نصب ، على أن تكون ما حجازية .
ويجوز أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون ما تميمية ، فدخلت الباء في خبر المبتدأ ، وسوّغ ذلك النفي .
ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب ؟ لا تقول : زيد بقائم ، ولا : ما زيد إلا بقائم .
قال ابن عطية : وبغافل في موضع نصب خبر ما ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية .
وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية ، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة ، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه ، بل القائلون قائلان ، قائل : بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها ، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه ، وتبعه الزمخشري .
وقائل : بأنه يجوز أن يجر بالباء ، وهو الصحيح .
وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيراً .
وقرأ الجمهور : تعملون بالتاء ، وهو الجاري على نسق قوله : { ثم قست قلوبكم } .
وقرأ ابن كثير بالياء ، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل ، ويكون ذلك التفاتاً ، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } إلى الغيبة في قوله : { يعملون } .
وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم ، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب ، وجعلهم كالغائبين عنه ، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه ، وتأنيس له ، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب ، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات .