البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

هاد : ألفه منقلبة عن واو ، والمضارع يهود ، ومعناه : تاب ، أو عن ياء والمضارع يهيد ، إذا تحرك .

والأولى الأول لقوله تعالى : { إنا هدنا إليك } وسيأتي الكلام على لفظه اليهود حيث انتهينا إليها في القرآن ، إن شاء الله تعالى .

والنصارى : جمع نصران ونصرانه ، مثل ندمان وندمانة .

قال سيبويه وأنشد :

وكلتاهما خرت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف

وأنشد الطبري :

يظل إذا دار العشي محنفا *** ويضحى لديه وهو نصران شامس

منع نصرانا الصرف ضرورة ، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه .

قال سيبويه : إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب ، فيكون : كلحيان ولحياني وكأحمري .

وقال الخليل : واحد النصارى نصرى ، كمهرى ومهاري .

قيل : وهو منسوب إلى نصرة ، قرية نزل بها عيسى .

وقال قتادة : نسبوا إلى ناصرة ، وهي قرية نزلوها .

فعلى هذا يكون من تغييرات النسب .

والصابئين : الصائبون ، قيل : الخارجون من دين مشهور إلى غيره ، من صبوء السن والنجم ، يقال : صبأت النجوم : طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : خرجت ، وصبأت على القوم بمعنى : طرأت ، قال :

إذا صبأت هوادي الخيل عنا *** حسبت بنحرها شرق البعير

ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته .

قال الحسن والسدي : هم بين اليهود والمجوس .

وقال قتادة : والكلبي : هم بين اليهود والنصارى ، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم .

وقال الخليل : هم أشباه النصارى ، قبلتهم مهب الجنوب ، يقرون بنوح ، ويقرؤون الزبور ، ويعبدون الملائكة .

وقال عبد العزيز بن يحيى : لا عين منهم ولا أثر .

وقال المغربي ، عن الصابي صاحب الرسائل : هم قريب من المعتزلة ، يقولون بتدبير الكواكب .

وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، ليسوا بيهود ولا نصارى .

قال ابن أبي نجيح : قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم .

وقال ابن زيد : قوم يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بالجزيرة والموصل .

وروي عن الحسن وقتادة أيضاً أنهم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون الخمس للقبلة ، ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان ، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة .

وقال ابن عباس : هم قوم من اليهود والنصارى ، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم .

وقال أبو العالية : قوم من أهل الكتاب ، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب ، يقرؤون الزبر ، ويخالفونهم في بقية أفعالهم .

وقال الحسن والحكم : قوم كالمجوس .

وقيل : قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فعالة .

وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم .

وقيل : قوم يعبدون الكواكب ، ثم لهم قولان : أحدهما : أن خالق العالم هو الله ، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء .

الثاني : أنه تعالى خلق الأفلاك والكواكب ، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله ، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم .

الأجر : مصدر أجر بأجر ، ويطلق على المأجور به ، وهو الثواب .

والأجور : جبر كسر معوج ، والأجار : السطح ، قال الشاعر :

تبدو هواديها من الغبار *** كالجيش الصف على الأجار

الرفع : معروف ، وهو أعلى الشيء ، والفعل منه رفع يرفع ،

قوله تعالى : { إنّ الذين آمنوا والذين هادوا } الآية .

نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عباداً من النصارى ، فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به .

ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية ، حكى هذه القصة مطوّلة ابن إسحاق والطبري والبيهقي .

وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام ، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } وردّت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة ، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم .

وروى الواحدي ، بإسناد متصل إلى مجاهد ، قال : لما قص سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه ، وقال له هم في النار ، قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض ، فنزلت إلى { يحزنون } ، قال : فكأنما كشف عني جبل .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب ، وما حل بهم من العقوبة ، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم ، دالاً على أنه يجزي كلاً بفعله ، والذين آمنوا منافقوا هذه الأمّة ، أي آمنوا ظاهراً ، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم ، ثم بين حكم من آمن ظاهراً وباطناً ، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول .

ومن آمن : معناه من داوم على إيمانه ، وفي سائر الفرق : من دخل فيه ، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقيس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ومن لحقه : كأبي ذر ، وسلمان ، وبحيرا .

ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث ، فمنهم من أدرك وتابع ، ومنهم من لم يدركه ، والذين هادوا كذلك ، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، والنصارى كذلك ، والصابئين كذلك ، قاله السدّي أو أصحاب سلمان ، وقد سبق حديثهم ، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول ، قاله ابن عباس ، أو المؤمنون بموسى ، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته ، إلى أن جاء محمد ، قاله السدي عن أشياخه ، أو مؤمنوا الأمم الخالية ، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم .

فهذه ثمانية أقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود .

وقرأ الجمهور : هادوا بضم الدال .

وقرأ أبو السماك العدوي : بفتحها من المهاداة ، قيل : أي مال بعضهم إلى بعض ، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال ، أو هاء وياء ودال ، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء ، ويكون فاعل من الهداية ، وجاء فيه فاعل موافقة فعل ، كأنه قيل : والذين هدوا ، أي هدوا أنفسهم نحو : جاوزت الشيء بمعنى جزته .

{ والنصارى } : الألف للتأنيث ، ولذلك منع الصرف في قوله : { الذين قالوا إنا نصارى } وهذا البناء ، أعني فعالى ، جاء مقصوراً جمعاً ، وجاء ممدوداً مفرداً ، وألفه للتأنيث أيضاً نحو : براكاء .

وقرأ الجمهور : والصابئين مهموزاً ، وكذا والصابئون ، وتقدم معنى صبأ المهموز .

وقرأ نافع : بغير همز ، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ : بمعنى مال ، ومنه قول الشاعر :

إلى هند صبا قلبي*** وهند مثلها يصبي

والوجه الآخر يكون أصله الهمز ، فسهل بقلب الهمز ألفاً في الفعل وياء في الاسم ، كما قال الشاعر :

إن السباع لتهدي في مرابضها*** والناس ليس بهاد شرهم أبداً

وقال الآخر :

وكنت أذل من وتد بقاع*** يشجج رأسه بالفهرواج

وقال آخر :

فارعى فزارة لا هناك المرتع***

إلا أن قلب الهمزة ألفاً يحفظ ولا يقاس عليه .

وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر ، فلذلك كان الوجه الأول أظهر .

وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى .

{ والصابئين } : لا يدل عليها لفظ القرآن هنا ، فلم يذكرها ، وموضعها كتب الفقه .

.

{ من آمن بالله واليوم الآخر } ، من : مبتدأة ، ويحتمل أن تكون شرطية ، فالخبر الفعل بعدها ، وإذا كانت موصولة ، فالخبر قوله : { فلهم أجرهم } ، ودخلت الفاء في الخبر ، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر ، وقد تقدم ذكرها .

واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله : { من آمن } في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ ، وإن الرابط محذوف تقديره : من آمن منهم ، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين ، أعني : الذي هو صلة الذين ، والذي هو صلة من ، إما في التعليق ، أو في الزمان ، أو في الإنشاء والاستدامة .

وأما إذا لم يتغايرا ، فلا يتم ذلك ، لأنه يصير المعنى : إن الذين آمنوا : من آمن منهم ، ومن كانوا مؤمنين ، لايقال : من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين .

وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف ، وأن التقدير : { إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم } ، { والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم } ، أي من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم ، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبراً عن الذين آمنوا ، ومن بعدهم .

ومن أعرب من مبتدأ ، فإنما جعلها شرطية .

وقد ذكرنا جواز كونها موصولة ، وأعربوا أيضاً من بدلاً ، فتكون منصوبة موصولة .

قالوا : وهي بدل من اسم إن وما بعده ، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين ، كما ذكرنا ، إذا كانت مبتدأة .

والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن ، فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم .

ودخلت الفاء في الخبر ، لأن الموصول ضمن معنى الشرط ، ولم يعتد بدخول إن على الموصول ، وذلك جائز في كلام العرب ، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك .

ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله ، وحذف منه حرف العطف ، التقدير : ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل .

{ وعمل صالحاً } : هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض ، أو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم أقوال .

الثاني يروى عن ابن عباس ، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ من ، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال : { فلهم أجرهم } إلى آخر الآية ، فجمع حملاً على المعنى .

وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ ، وأما على إعراب من بدلاً ، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط .

وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو .

قال أبو محمد بن عطية : وإذا جرى ما بعد على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى ، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام .

انتهى كلامه .

وليس كما ذكر ، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك .

لكنّ الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون : من يقومون في غير شيء ، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك ، وهذا على ما قرر في علم العربية :

تروى الأحاديث عن كل مسامحة***

وإنما لمعانيها معانيها

وأجرهم : مرفوع بالابتداء ، ولهم في موضع الخبر .

وعند الأخفش والكوفيين : إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور .

{ عند ربهم } : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم ، ويحتمل أن ينتصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : كائناً عند ربهم .

وقرأ الجمهور : { ولا خوف } ، بالرفع والتنوين .

وقرأ الحسن : ولا خوف ، من غير تنوين .

وقد تقدم الكلام على قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } في آخر قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، فأغنى عن إعادته هنا .

ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره ، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى ، ولا خوف على ما يستقبل .

قال القشيري : اختلاف الطرق مع اتحاذ الأصل لا يمنع من حسن القبول ، فمن صدق الله تعالى في إيمانه ، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته ، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان .

/خ66