البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (76)

التحديث : الإخبار عن حادث ، ويقال منه يحدث ، وأصله من الحدوث ، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه ، وإلى آخر بعن ، وإلى ثالث بالباء ، فيقال : حدثت زيداً عن بكر بكذا ، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين ، فيتعدى إلى ثلاثة ، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم ، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير : أعلم ، وأرى ونبأ ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة :

أو منعتم ما تسألون فمن *** حدثتموه له علينا العلاء

وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة ، ويحتمل أن يكون التقدير : حدثتموا عنه .

والجملة بعده حال .

كما خرج سيبويه قوله : ونبئت عبد الله ، أي عن عبد الله ، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى : أعلمت ، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين .

وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف ، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه ، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك ، إلا أن يثبت من لسان العرب .

الفتح : القضاء بلغة اليمن ، { وهو المفتاح العليم } والأذكار : فتح على الإمام ، والظفر : { فقد جاءكم الفتح } قال الكلبي : وبمعنى القصص .

قال الكسائي : وبمعنى التبيين .

قال الأخفش : وبمعنى المن .

وأصل الفتح : خرق الشيء ، والسد ضده .

المحاجة : من الاحتجاج ، وهو القصد للغلبة ، حاجه : قصد أن يغلب .

والحجة : الكلام المستقيم ، مأخوذ من محجة الطريق .

{ وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } : قرأ ابن السميفع : لاقوا ، قالوا : على التكثير .

ولا يظهر التكثير ، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرّد .

فمعنى لاقوا ، ومعنى لقوا واحد ، وتقدّم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاشفة عما أكنوه من النفاق .

ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله : { وقد كان فريق منهم } الآية ، أي كيف يطمع في إيمانهم ، وقد كان من أسلافهم من يحرّف كلام الله ، وهؤلاء سالكو طريقتهم ، وهم في أنفسهم منافقون ، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم ، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار .

فمن جمع بين هاتين الحالتين ، من اقتدائهم بأسلافهم الضلاّل ، ومنافقتهم للمؤمنين ، لا يطمع في إيمانهم .

والذين آمنوا هنا هم : أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين ، قاله جمهور المفسرين .

وقال بعضهم : المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم ، والضمير في لقوا الجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم ، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا ، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان ، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن .

{ وإذ خلا بعضهم إلى بعض } أي : وإذا انفرد بعضهم ببعض ، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق .

وإلى ، قيل : بمعنى مع ، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض ، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدّي بإلى ، أي انضوى إلى بعض ، أو استكان ، أو ما أشبهه ، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف .

{ قالوا } : أي ذلك البعض الخالي ببعضهم .

{ أتحدّثونهم } : أي قالوا عاتبين عليهم ، أتحدّثون المؤمنين ؟ { بما فتح الله عليكم } : وما موصولة ، والضمير العائد عليها محذوف تقديره : بما فتحه الله عليكم .

وقد جوّزا في ما أن تكون نكرة موصوفة ، وأن تكون مصدرية ، أي بفتح الله عليكم .

والأولى الوجه الأول ، والذي حدّثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو ما عذب به أسلافهم ، قاله السدي .

وقال مجاهد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة : « يا إخوة الخنازير والقرد » فقال الأحبار لأتباعهم : ما عرف هذا إلا من عندكم .

وقال ابن زيد : كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا : في التوراة كذا وكذا ، فكره ذلك أحبارهم ، ونهوا في الخلوة عنه .

فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار ، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم ؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس .

وعلى قول السدي : يكون بمعنى الحكم والقضاء ، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء من تعذيبهم ؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى : الإنزال ، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة ؟ وقال الكلبي : المعنى بما قضى الله عليكم ، وهو راجع لمعنى الإنزال .

وقيل : المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفته ، وشريعته ، وما دعاكم إليه من الإيمان به ، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته .

وقيل : المعنى بما منّ الله عليكم من النصر على عدوّكم ، ومن تأويل كتابكم .

{ ليحاجوكم } : هذه لام كي ، والنصب بأن مضمرة بعدها ، وهي جائزة الإضمار ، إلا إن جاء بعدها لا ، فيجب إظهارها .

وهي متعلقة بقوله : { أتحدثونهم } ، فهي لام جر ، وتسمى لام كي ، بمعنى أنها للسبب ، كما أن كي للسبب .

ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي ، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي ، فتقول : لكي أكرمك ، لأن الذي يضمر إنما هو : أن لا : كي ، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي ، أو أن .

وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن ، إنما ذلك على سبيل التأكيد .

وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو .

وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله : فتح ، وليس بظاهر ، لأن المحاجة ليست علة للفتح ، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث ، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى ، فيمكن أن يصير المعنى : إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به ، فآل أمره إلى أن حاجوهم به ، فصار نظير : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً } لم يلتقطوه لهذا الأمر ، إنما آل أمره إلى ذلك .

ومن لم يثبت لام الصيرورة ، جعلها لام كي ، على تجوّز ، لأن الناشىء عن شيء ، وإن لم يقصد ، كالعلة .

ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله : أتحدثونهم ، وبين : بما فتح ، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة ، كأنه قال : أتحدثونهم فيحاجوكم .

وعلى الثاني يكون أبعد ، إذ يصير المعنى : فتح الله عليكم به ، فحدثتموهم به ، فحاجوكم .

فالأولى جعله لأقرب وساطة ، والضمير في { به } عائد إلى ما من قوله : { بما فتح الله } ، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية ، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير .

{ عند ربكم } معمول لقوله : ليحاجوكم ، والمعنى : ليحاجوكم به في الآخرة .

فكنى بقوله : { عند ربكم } عن اجتماعهم بهم في الأخرة ، كما قال تعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } وقيل : معنى عند ربكم : في ربكم ، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم .

وقيل معناه : إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا ، وهو عند الله كذا ، بمعنى واحد ؟ وقيل : هو معمول لقوله : { بما فتح الله عليكم عند ربكم } ، أي من عند ربكم ليحاجوكم ، وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ميثاقهم بتصديقه .

قال ابن أبي الفضل : وهذا القول هو الصحيح ، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا . انتهى .

والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير ، إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن بجعل قوله : { عند ربكم } على بعض المعاني التي ذكرناها .

وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب ، فبعيد جداً ، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله : أتحدثونهم ، وعند ربكم متعلق بقوله : بما فتح الله عليكم ، فتكون قد فصلت بين قوله : عند ربكم ، وبين العامل فيه الذي هو : فتح الله عليكم ، بقوله : ليحاجوكم ، وهو أجنبي منهما ، إذ هو متعلق بقوله : أتحدثونهم على الأظهر ، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام ، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام ؟ .

{ أفلا تعقلون } : ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال : أتحدثونهم بما يكون حجة لهم عليكم ؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك ؟ وقيل : هو خطاب من الله للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون ، وهم على هذه الصفات الذميمة ، من اتباع أسلافهم المحرّفين كلام الله ، والتقليد لهم فيما حرّفوه ، وتظاهرهم بالنفاق ، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه ؟ .

/خ82