البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

الطمع : تعلق النفس بإدراك مطلوب ، تعالقاً قوياً ، وهو أشدّ من الرجاء ، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة ، وإذا اشتدّ صار طمعاً ، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء .

يقال : طمع يطمع طمعاً وطماعة وطماعية مخففاً ، كطواعية ، قال الشاعر :

طماعية أن يغفر الذنب غافره***

واسم الفاعل : طمع وطامع ، ويعدّي بالهمزة ، ويقال : طامعه مطامعة ، ويقال : طمع بضم الميم ، كثر طعمه ، وضدّ الطمع : اليأس ، قال كثير :

لا خير في الحب وقفاً لا يحركه *** عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع

ويقال : امرأة مطماع ، أي تطمع ولا تمكن ، وقد توسع في الطمع فسمى به رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بإطماعهم ، أي أرزاقهم ، وهو من وضع المصدر موضع المفعول .

الكلام : هو القول الدال على نسبة إسنادية مقصودة لذاتها ، ويطلق أيضاً على الكلمة ، ويعبر به أيضاً عن الخط والإشارة ، وما يفهم من حال الشيء .

وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام ؟ في ذلك خلاف ، وتقاليبه الست موضوعة ، وترجع إلى معنى القوة والشدة ، وهي : كلم ، كمل ، لكم ، لمك ، ملك ، مكل .

التحريف : إمالة الشيء من حال إلى حال ، والحرف : الحد المائل .

{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } : ذكروا في سبب نزول هذه الآية أقاويل : أحدها : أنها نزلت في الأنصار ، وكانوا حلفاء لليهود ، وبينهم جوار ورضاعة ، وكانوا يودون لو أسلموا .

وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود ، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة ، وكانوا يغضبون لهم ويلطفون بهم طمعاً في إسلامهم .

وقيل : نزلت فيمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الطور ، فسمعوا كلام الله ، فلم يمتثلوا أمره ، وحرّفوا القول في أخبارهم لقومهم ، وقالوا : سمعناه يقول إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا .

وقيل : نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة ، فيجعلون الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، اتباعاً لأهوائهم .

وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن »

قال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما : اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن ، وقولوا لهم آمنا ، واكفروا إذا رجعتم ، فنزلت .

وقيل : نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين : نحن نؤمن أنه نبي ، لكن ليس إلينا ، وإنما هو إليكم خاصة ، فلما خلوا ، قال بعضهم : أتقرون بنبوّته وقد كنا قبل نستفتح به ؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه .

وقيل : نزلت في قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه .

وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا ، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل ، والضمير في { أن يؤمنوا لكم } لليهود .

والمعنى : استبعاد إيمان اليهود ، إذ قد تقدّم لأسلافهم أفاعيل ، وجزى أبناؤهم عليها .

فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء ، فإن قيل : كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ؟ قيل : قال القفال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم يحرفون عناداً ؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدون يقبلون ذلك منهم ، فلا يلتفتون إلى الحق .

وقيل : إياسهم من إيمان فرقة بأعيانهم .

والهمزة في أفتطعمون للاستفهام ، وفيها معنى التقرير ، كأنه قال : قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهم ما ذكر .

وقيل : فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة .

واستبعد إيمانهم ، لأنهم كفروا بموسى ، مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه ، ولأنهم ما اعترفوا بالحق ، مع علمهم ، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال .

والخطاب في أفتطعمون ، للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة .

خاطبه بلفظ الجمع تعظيماً له ، قاله ابن عباس ومقاتل ، أو للمؤمنين ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو للأنصار ، قاله النقاش ، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أو لجماعة من المؤمنين ، أو لجماعة من الأنصار .

والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها ، والتقدير : أفتطعمون ، فالفاء للعطف ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدمت عليها .

والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف ، ويقر الفاء على حالها ، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها ، نحو قوله : { أو من ينشأ في الحلية } { أفمن يعلم أنما أنزل إليك } { أفمن هو قائم } أن يؤمنوا معمول لتطعمون على إسقاط حرف الجر ، التقدير : في أن يؤمنوا ، فهو في موضع نصب ، على مذهب سيبويه ، وفي موضع جر ، على مذهب الخليل والكسائي .

ولكم : متعلق بيؤمنوا ، على أن اللام بمعنى الباء ، وهو ضعيف ، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم .

{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } ، الفريق : قيل : الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد والسدّي .

وقيل : جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحرفونه ، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه ، ويحصل التضاد في أحكامه .

وقيل : كل من حرف حكماً ، أو غيره ، كفعلهم في آية الرجم ونحوها .

وقيل : هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله ، ثم بدلوا بعد ذلك ، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى .

قال ابن الجوزي : أنكر ذلك أهل العلم ، منهم : الترمذي ، صاحب النوادر ، وقال : إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده .

وكلام الله الذي حرفوه ، قيل : هو التوراة ، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم ، وهو قول الجمهور .

وقيل : بالتأويل ، مع بقاء لفظ التوراة ، قاله ابن عباس .

وقيل : هو كلام الله الذي سمعوه على الطور .

وقيل : ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقرأ الأعمش : كلم الله ، جمع كلمة ، وقد يراد بالكلمة : الكلام ، فتكون القراءتان بمعنى واحد .

وقد يراد المفردات ، فيحرفون المفردات ، فتتغير المركبات ، وإسنادها بتغير المفردات .

{ ثم يحرّفونه } : التحريف الذي وقع ، قيل : في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه ، حتى لا تقوم عليهم به الحجة .

وقيل : في صفته ، وفي آية الرجم .

{ من بعد ما عقلوه } أي من بعد ما ضبطوه وفهموه ، ولم تشتبه عليهم صحته .

وما مصدرية ، أي من بعد عقلهم إياه ، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله .

وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد عليها ، وهو بعيد .

{ وهم يعلمون } : ومتعلق العلم محذوف ، أي أنهم قد حرفوه ، أو ما في تحريفه من العقاب ، أو أنه الحق ، أو أنهم مبطلون كاذبون .

والواو في قوله : { وقد كان فريق } ، وفي قوله : { وهم يعلمون } ، واو الحال .

ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله : { أفتطعمون } ؟ ويحتمل أن يكون : { أن يؤمنوا } .

فعلى الأول يكون المعنى : أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود ؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله ، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم ، فيكون الحال قيداً في الطمع المستبعد ، أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه .

وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان ، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى .

فعلى هذا يكون الحال قيداً في أيمانهم .

وعلى كلا التقديرين ، فكل منهما ، أعني من : أفتطعمون ، ومن يؤمنوا ، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى .

وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب .

وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت : أتطمع أن يتبعك زيد ؟ وهو متبع طريقة أبيه ، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال ، ومتعلق الطمع ، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه ، مقيد بهذه الحال .

فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع ، ولا يناسب الطمع ، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع ، مع انتفاء هذه الحال .

وأما العامل في قوله : { وهم يعلمون } ، فقوله : { ثم يحرفونه } ، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه ، عالمين بما في تحريفه من شديد العقاب ، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك ، ويجترئون عليه .

والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل ، لأن عند العالم دواعي الطاعة ، لما علم من ثوابها ، وتواني المعصية لما علم من عقابها .

وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله : { وهم يعلمون } ، قوله : { عقلوه } ، والظاهر القول الأول ، وهو قوله : { يحرفونه } .

/خ82