البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

الكفالة : الضمان ، يقال : كفل يكفل فهو كافل وكفيل ، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء .

زكريا : أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور ، ولذلك يمتنع صرفه نكرة ، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز ، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة .

وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم ، وهو غلط منه ، ويقال : ذكرى بحذف الألف ، وفي آخره ياء كياء بحتى ، منونة فهو منصرف ، وهي لغة نجد ، ووجهه فيما قال أبو علي ؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور ، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه ، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف .

انتهى كلامه .

وقد حكي : ذكر على وزن : عمر ، وحكاها الأخفش .

المحراب : قال أبو عبيدة : سيد المجالس وأشرفها ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، وقال الاصمعي : الغرفة وقال :

وماذا عليه إن ذكرت أوانساً *** كغزلان رمل في محاريب أقيالِ

شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج : الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء : القصر ، لشرفه وعلوه وقيل : المسجد وقيل : محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه ، وهو مقام الإمام من المسجد .

{ فتقبلها ربها بقبول حسن } قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً ، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً .

وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها .

وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل ، فيكون تفعل بمعنى استفعل ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله .

قال :

وخير الأمر ما استقبلت منه *** وليس ببأن تتبعه اتباعاً

أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت .

وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبريء .

والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة .

والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص .

{ وأنبتها نباتاً حسناً } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على الطاعة والعبادة .

قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار .

وقيل : لم تجر عليها خطيئة .

قال قتادة : حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم .

وقيل : معنى { وأنبتها نباتاً حسناً } أي : جعل ثمرتها مثل عيسى .

وانتصب : نباتاً ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتاً حسناً ، ويقال : القبول الحسن تربيتها على نعت العصمة حتى قالت : { أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا } والنبات الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات .

{ وكفلها زكريا } قال قتادة : ضمها إليه .

وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً .

أوحى الله إلى داود عليه السلام : إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً .

وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها .

وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ربها ، بالنصب على النداء ، و : أبنتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم .

وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكسر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفِل وكفل يكفَل ، كعلم يعلم .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصوراً وباقي السبعة ممدوداً .

وتقدم ذكر اللغات فيه .

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها .

فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها .

فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر .

قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور .

وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها .

قيل : واسترضع لها .

وقال الحسن : لم تلتقم ثدياً قط .

وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء .

وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم .

وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران .

ويعضد هذا القول قول صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة .

وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها .

وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته .

وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : أني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريج ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبياً ، فهو أولى بها لعصمته .

وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب .

قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلاَّ بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره .

وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل : كانت مطهرة من الحيض .

{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } .

قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .

وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة .

والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود .

والأغرب أن مريم منهم .

وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها .

وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب .

وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم .

قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق .

والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف .

و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها .

ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو .

وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية .

{ قال يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله } استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و : أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت :

أنَّى ومن أين أتاك الطرب *** من حيث لا صبوة ولا طرب

وجوابها سؤاله بأنه { من عند الله } ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى .

وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته .

وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى .

وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي .

والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد .

قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال .

لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه { من عند الله } ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي .

{ إن الله يزرق من يشاء بغير حساب } تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم .

.

وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله .

فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل .

/خ37