البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قال أبو عبيدة { إذ } زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول بيقول .

قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري .

وقال ابن عباس وقتادة والجمهور : هذا القول من الله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل ، فيقع التجوز في استعمال { إذ } بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم ، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه ، بيان ذلك أنك تقول : أضربت زيداً ، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا ، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع .

فإذا قلت أنت ضربت زيداً كان الضرب قد وقع بزيد ، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب ، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش .

وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم ، فكيف قيل { إلهين } ، وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً ، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته ، فصاروا بمثابة من قال : انتهى .

والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى ، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ .

{ قال سبحانك } أي تنزيهاً لك .

قال ابن عطية : عن أن يقال هذا وينطق به ؛ وقال الزمخشري من أن يكون لك شريك ، والظاهر الأول لقوله بعد { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } قال أبو روق : لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم ، فقال عند ذلك مجيباً لله تعالى : { سبحانك } تنزيهاً وتعظيماً لك وبراءة لك من السوء .

{ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلاً ادعاء بشر محدث الإلهية و { بحق } خبر ليس أي ليس مستحقاً وأجازوا في { لي } أن يكون تبييناً وأن يكون صلة صفة لقوله { بحق } لي تقدم فصار حالاً أي بحق لي ، ويظهر أنه يتعلق { بحق } لأن الباء زائدة ، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقاً ، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله { ما ليس لي } وجعل { بحق } متعلقاً بعلمته الذي هو جواب الشرط ، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك ، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك ، أو بتوقيف ، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك ؛ انتهى هذا القول ورده ، ويمتنع أن يتعلق بعلميته لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه ، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله { بحق } وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

{ إن كنت قلته فقد علمته } قال أبو عبد الله الرازي : هذا مقام خضوع وتواضع ، فقدم ناسخ نفي القول عنه ، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهار الذلة والمسكنة في حضرة الجلال ، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق سبحانه ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص .

{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات .

قيل : المعنى : تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي .

وقيل : تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك .

وقيل : تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل .

وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد .

وقيل : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك .

وقال الزمخشري : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله : { ما في نفسك } على جهة المقابلة والتشاكل لقوله { ما في نفسي } فهو شبيه بقوله : { ومكروا ومكر الله } وقوله : { إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم } ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته ، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك ، وقد استدلت المجسمة بقوله { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } قالوا : النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسماً .

تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً .

{ إنك أنت علام الغيوب } هذا تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه { علام الغيوب } لا ينتهي إليه أحد ، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علم لي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلقاه الله { سبحانك ما يكون لي ان أقول ما ليس لي بحق }

الآية كلها .

قال أبو عيسى : حديث حسن صحيح .