البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } هذا استدعاء لإيمانهم ، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم ، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها ، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا .

ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة ، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة ، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي ، والذي به النجاة السرمدية ، والنعيم الذي لا ينقضي .

ومعنى إقامة التوراة والإنجيل : هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم : أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها ، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته .

وفي قوله : والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب .

وظاهر قوله : وما أنزل إليهم من ربهم ، العموم في الكتب الإلهية مثل : كتاب أشعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال ، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول .

وقيل : ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن .

وظاهر قوله : لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم ، وتوسعة الرزق عليهم ، كما يقال : قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي : لأعطتهم السماء مطرها وبركتها ، والأرض نباتها كما قال تعالى : { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } وذكر النقاش من فوقهم من رزق الجنة ، ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا إذ هو من نبات الأرض .

وقيل : من فوقهم كثرة الأشجار المثمرة ، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة .

وقيل : من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض ، وتحت أرجلهم .

وقال تاج القراء : من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم ، وعبر بالأكل عن الأخذ ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة .

{ منهم أمّة مقتصدة } الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب .

والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله : وكثير منهم .

والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال ، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي : كانت أولاً جائزة ثم اقتصدت .

قيل : هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه ، وثمانية وأربعون من النصارى .

واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى .

وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً ، ونحوه قول ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب .

وذكر الزجاج وغيره : أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين .

وقال الزمخشري : مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال الطبري : من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول : هو عبد الله ورسوله وروح منه ، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم : هو الإله ، وعلى هذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى .

وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي كغيره لغير رشده ، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى ؟ أو في المناصبة ؟ أو في الإيمان ؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء ؟ قولان .

وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديماً وحديثاً ؟ قولان .

{ وكثير منهم ساء ما يعملون } هذا تنويع في التفصيل .

فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة ، جاء الخبر الجار والمجرور ، والخبر الجملة من قوله : ساء ما يعملون ، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى .

وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً ، والوصف ألزم للموصوف من الخبر ، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة ، وأخبر عنها بقوله : منهم ، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا ، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم ، باعتبار الحالة الماضية .

وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار ، فجاء الوصف بالإلزام ، ولم يجعل خبراً ، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون ، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم ، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة ، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف ، فإن فيه التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم ! ولم يذكر غير هذا الوجه .

واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول : ساء الأمر يسوء ، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله : ساء مثلاً .

فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين ، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي : ساء عملاً ما كانوا يعملون .