البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِيَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (105)

ولما كان قوله { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله { قد جئتكم } ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله { فأرسل } ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال : { إن كنت جئت بآية } ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ، وقرأ نافع { عليّ أن لا أقول } بتشديد الياء جعل { علي } داخلة على ياء المتكلم ومعنى { حقيق } جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و { أن لا أقول } الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ على كذا ويجب ويجوز أن يكون { أن لا أقول } مبتدأ و { حقيق } خبره ، وقال قوم : تمّ الكلام عند قوله { حقيق } و { على أن لا أقول } مبتدأ وخبره ، وقرأ باقي السبعة على بجرها { أن لا أقول } أي { حقيق } على قول الحق ، فقال قوم : ضمن { حقيق } معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي : على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله

{ ولا تقعدوا بكل صراط } أي على كل صراط فكأنه قيل : { حقيق } بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ، وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر *** ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى ، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع ، قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له ، قال الزمخشري : والثالث أن يضمن { حقيق } معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت :

إذا تغنى الحمام الورق هيجني *** ولو تسليت عنها أم عمار

قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ الله فرعون قال لما قال { إني رسول من رب العالمين } كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون { على أن لا أقول } صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم { حقيق } من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق { على } برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله { حقيق } انتهى .

وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في { على } { أرسلت } ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق { على } برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول ، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق .

ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في { جئتكم } لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى { بينة } بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله { في تسع آيات إلى فرعون وقومه } ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله { فألقى عصاه } الآية ، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله { من ربّكم } تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده { فأرسل } أي فخل والإرسال ضد الإمساك { معي بني إسرائيل } أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى

{ فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى .