{ ما وصى به نوحاً والذي أوحينا } : أي شرع لكم من الدين الذي وصى به نوحا { والذي أوحينا إليك } به إليك .
{ وما وصينا به إبراهيم وموسى } : أي والذي وصينا باقي أولى العزم وهم { إبراهيم وموسى وعيسى } وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات .
{ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } : أي بأن أقيموا الدين الذي شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه .
{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } : أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله .
{ الله يجتبي إليه من يشاء } : أي يختار إلى الإِيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك .
{ ويهدي إليه من ينيب } : أي ويوفق لطاعته من ينيب إليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه ، بخلاف المعرضين المستكبرين .
يخاطب تعالى رسوله والمؤمنين فيقول وقوله الحق : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } إذ هو أول حامل شريعة من الرسل والذي أوحينا إليك يا محمد وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } من أولى العزم من الرسل { أن أقيموا الدين } وهو دين واحد قائم على الإِيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه ، وعدم التفرق فيه ، لأن التفرق فيه بسبب تضيعه كلا أو بعضاً .
وقوله تعالى : { كبر على المشركين من كفار قريش ما تدعوهم إليه } أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام ، إذاً فادعهم واصبر على أذاهم والله يجتبي إليه يختار للإِيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل ، ولا يستكبرون عن الحق إذا عرفوه ، ويهدى إليه أي ويوفق لطاعته مَنْ مِنْ شأنه الإِنابة والرجوع إلى ربّه في أموره كلها .
- دين الله واحد وهو الإِيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
- حرمة الاختلاف في دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضا .
الأولى- قوله تعالى : " شرع لكم من الدين " أي الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوج وإبراهيم وموسى وعيسى ، ثم بين ذلك بقوله تعالى : " أن أقيموا الدين " وهو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء ، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما . ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة ، قال الله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " [ المائدة : 48 ] وقد تقدم القول فيه{[13473]} . ومعنى " شرع " أي نهج وأوضح وبين المسالك . وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن . والشارع : الطريق الأعظم . وقد شرع المنزل إذا كان على طريق نافذ . وشرعت الإبل إذا أمكنتها من الشريعة . وشرعت الأديم إذا سلخته . وقال يعقوب : إذا شققت ما بين الرجلين ، قال : وسمعته من أم الحمارس البكرية . وشرعت في هذا الأمر شروعا أي خضت . " أن أقيموا الدين " " أن " في محل رفع ، على تقدير والذي وصى به نوحا أن أقيموا الدين ، ويوقف على هذا الوجه على " عيسى " . وقيل : هو نصب ، أي شرع لكم إقامة الدين . وقيل : هو جر بدلا من الهاء في " به " ، كأنه قال : به أقيموا الدين . ولا يوقف على " عيسى " على هذين الوجهين . ويجوز أن تكون " أن " مفسرة ؛ مثل : أن امشوا ، فلا يكون لها محل من الإعراب .
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور : ( ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون له : أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . . . ) وهذا صحيح لا إشكال فيه ، كما أن آدم أول نبي{[13474]} بغير إشكال ؛ لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة ، ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء ، واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل يتناصر{[13475]} بالأنبياء - صلوات الله عليهم - واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا ، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة ، وهى التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال ، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروآت ، فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة ، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله تعالى : " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " أي اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث ، " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " [ الفتح : 10 ] . واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم . والله أعلم . قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم . وقاله الوالبي عن ابن عباس ، وهو قول الكلبي . وقال قتادة : يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والأخوات والبنات . وما ذكره القاضي يجمع هذه الأقوال ويزيد عليها . وخص نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لأنهم أرباب الشرائع .
قوله تعالى : " كبر على المشركين " " كبر على المشركين " أي عظم عليهم . " ما تدعوهم إليه " " ما تدعوهم إليه " من التوحيد ورفض الأوثان . قال قتادة : كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله عز وجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها عل من ناوأها . " الله يجتبي إليه من يشاء " " الله يجتبي إليه من يشاء " أي يختار . والاجتباء الاختبار ، أي يختار للتوحيد من يشاء . " ويهدي إليه من ينيب " ويهدي إليه من ينيب " أي يستخلص لدينه من رجع إليه .
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } اتفق دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات ، وذلك هو المراد هنا ، ولذلك فسره بقوله : { أن أقيموا الدين } يعني : إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة ، وأما الأحكام الفروعية فاختلفت فيها الشرائع فليست تراد هنا .
{ أن أقيموا } يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلا من قوله : { ما وصى } أوفى موضع خفض بدلا من به أوفى موضع رفع على خبر ابتداء مضمر أو تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب .
{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي : صعب الإسلام على المشركين .
{ الله يجتبي إليه من يشاء } الضمير في إليه يعود على الله تعالى وقيل : على الدين .