تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ} (13)

الآية 13 وقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا } الدين [ الذي ]{[18691]} يُذكر ، ويراد به ، الجزاء ، وهو قوله تعالى : { ملك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] أي يوم الجزاء ، أو يُذكر ، ويراد به الحكم كقوله تعالى خبرا عن يوسف عليه السلام : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] أي في حكم الملك ، ويُذكر ، ويراد به المذهب والمعتقد كقوله تعالى : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] وقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] فكان المعنى من قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا } هو المذهب ، وما يُعتقد .

وقد ذكر الدين مُعرّفا بالألف واللام ، وإنه للجنس ، فيكون كأنه قال : شرع لكم من الأديان جملة الدين الذي وصّى به نوحا ومن ذكر من الأنبياء ، وهو التوحيد لله تعالى والعبادة له ، والأنبياء والرسل جميعا إنما بُعثوا للدعاء إلى توحيد الله وجعل العبادة له ، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم ، وذلك قوله : { لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] .

ومن الناس من يكون { شرع لكم من الدين } ويجعل { من } صلة زائدة فيه ، أي شرع لكم الدين الذي { وصّى به نوحا } ومن ذكر ، والوجه فيه ما ذكرنا .

فإن قيل : [ ما ]{[18692]} معنى تخصيص نوح ومن ذكر من ذكر الأنبياء عليهم السلام والكل بُعثوا للدعاء إلى هذا الدين ، وقد وصّى الكل بهذا الدين ؟ فنقول [ ما ]{[18693]} قال بعضهم : إنما خصّ نوحا ومن ذكر بهذا لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام وإنما جاء ذلك في زمن نوح ، لذلك خصّ نوحا بما ذكر .

ويحتمل أن يكون ذكر هؤلاء لا تخصيصهم بذلك من بين الأنبياء ، ولكن ذكر بعضا ههنا ، وترك ذكر البعض ليس أنه شرع له ما وصّى به نوحا ومن ذكر من الأنبياء ، ولم يشرع له ما وصّى به غيرهم ، بل شرع ما وصّى به هؤلاء وغيرهم من الدين كقوله تعالى : { فبهُداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] ذكر بعض هؤلاء وغيرهم ، ثم أمره أن يقتدي بما هم عليه .

دلّ أن ذكر البعض في موضع ليس للتخصيص كما ذكر البعض في موضع آخر والكل في موضع آخر ، والله أعلم .

ويحتمل تخصيص هؤلاء بالذكر لمعنى لم يُطلعنا الله على ذلك كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : ( كما صلّيت على إبراهيم ) [ البخاري 3370 ومسلم 405 ] لمعنى لم يُطلعنا على ذلك . والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تتفرّقوا فيه } يحتمل وجهين :

أحدهما : { ولا تتفرّقوا فيه } أي في عبادة الله تعالى ، أي اعبدوه جميعا .

والثاني : { ولا تتفرّقوا فيه } أي الدين الذي ذكر ، وهو التوحيد ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { كبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي عظُم عليهم دعاؤكم إلى التوحيد وعبادة الله وحده .

وقوله تعالى : { الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من يُنيب } هذا ينقُض على المعتزلة لأنه تعالى أخبر أنه يجتبي إليه من يشاء . ولو كان على ما يقوله المعتزلة : إنه قد أعطى الكافر جميع ما أعطى المؤمن ، فالمؤمن حين{[18694]} صار مجتبى مصطفى مختارا إنما كان مما{[18695]} يفعله لأمر الله تعالى . وقد أخبر أنه هو يجتبي من يشاء ، وهو يهديه ، فبطل قولهم .

وقوله تعالى : { ويهدي إليه من يُنيب } أي هو يهدي من يطلب منه ما به يكون الهدى ، وهو التوفيق ، أي من{[18696]} لم يطلب منه ذلك ، ولم يسأل ، فإنه لا يهديه{[18697]} ولا يُوفّقه .

وقال بعضهم : { ويهدي إليه من ينيب } تفسير قوله تعالى : { الله يجتبي إليه من يشاء } أي يجتبي للهداية من يُنيب إليه . فأما من لم يُنب إليه فلا يجتبيه للهداية . لكن المراد من الهداية ههنا ليس هدى البيان لأن هدى البيان قد كان عامّا لمن أناب إليه ، ومن لم يُنب . ولكن الهدى ههنا هو هدى الرحمة وهدى النعمة والمنّة .

سمّى التوحيد والإيمان مرة رحمة كقوله تعالى : { ولكن يُدخل من يشاء في رحمته } [ الشورى : 8 ] وسمّاه نعمة كقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 7 ] وسماه مِنّة كقوله تعالى : { بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان } [ الحجرات : 17 ] وسماه نورا كقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 22 ] . فلذلك قلنا : إن الهدى المذكور ههنا ليس هو هدى البيان ، ولكن سواه ، والله اعلم .


[18691]:ساقطة من الأصل وم.
[18692]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[18693]:ساقطة من الأصل وم.
[18694]:في الأصل وم: حيث.
[18695]:في الأصل وم: منه.
[18696]:في الأصل وم: ما.
[18697]:في الأصل وم: يهدي به.