البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ} (13)

لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه .

ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : { ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك } ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته ، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق .

والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ؛ ويقال : إن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم .

وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الإعراب .

وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده .

ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة .

{ كبر على المشركين } : أي عظم وشق ، { ما تدعوهم إليه } من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين .

{ الله يجتبي } : يجتلب ويجمع ، { إليه من يشاء } هدايته ، وهذا تسلية للرسول .

وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولاً إلى عباده ، { ويهدي إليه من ينيب } : يرجع إلى طاعته عن كفره .

وقال الزمخشري : { من يشاء } : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفه .

انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .

وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ، ولم تفرض له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبهاً على بعض الأمور ، مقتصراً على ضرورات المعاش .

واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات .

ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروات ؛ فهذا كله مشروع ديناً واحداً ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } : أي اجعلوه قائماً ، يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا اضطراب .

انتهى .

وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين .

وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص لله وعبادته ، { ولا تتفرقوا فيه } ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه .

وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق .

وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض .