فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ} (13)

{ شَرَعَ لَكُمْ } أي بين وأوضح وسن وأظهر طريقا واضحا ، وهو خبر حادي عشر { مِنَ الدِّينِ } أي دينا تطابقت على صحته الأنبياء ، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم { مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } من التوحيد ودين الإسلام ، وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل ، وتوافقت عليها الكتب ، وإنما خص نوحا لأنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع ، والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد دينا واحدا ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة المشهور الكبير :

( ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ) وهذا صحيح لا إشكال فيه كما أن آدم أول رسول نبئ بغير إشكال إلا أن آدم لم يكن معه إلا نبوة ، ولم تفرض له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان شرعه تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء واستمر على نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الآداب والديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء عليهم السلام واحدا بعد واحد وشريعة اثر شريعة حتى ختمها بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك والتعبير عنه عند نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذي هو أصل الموصلات لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وخص ما شرعه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإيحاء مع كون ما قبله وما بعده مذكورا بالتوصية ، للتصريح برسالته ، القامع لإنكار الكفرة ، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة لكمال الاعتناء بالإيحاء إليه ، وهو السر في تقدمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا والقديم توصية نوح للمسارعة على بيان كون المشروع لهم دينا قديما وتوجبه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين للتشريف والتنبيه ، على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام .

{ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } مما تطابقت عليه الشرائع وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة ؛ وأولو العزم ، ولميل قلوب الكفرة إليهم لاتفاق الكل على نبوة بعضهم ، وتفرد اليهود في موسى ، والنصارى في عيسى ، وكل من هؤلاء المذكورين له شرع جديد ، ومن عداهم من الرسل إنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله فشيت وإدريس بعثا بتبليغ شرع آدم ، ومن بين نوح وإبراهيم وهما هود وصالح بعثا بتبليغ شرع نوح ، ومن بين إبراهيم وموسى بعثوا بتبليغ شرع إبراهيم وكذا من بين موسى وعيسى بعثوا بتبليغ شرع موسى فليتأمل ، ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال :

{ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } أي توحيد الله ، والإيمان به وطاعة رسله ، وقبول شرائعه والمراد بإقامة تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو المواظبة عليه ، والتشمير له ، وقال السدي : أي اعملوا به وقيل : المراد سائر ما يكون المرء بإقامته مسلما ولم ترد به الشرائع فإنها مختلفة ، قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة فذلك دينه الذي شرع لهم ، وقال قتادة : يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام .

قال القرطبي : الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع هي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق ، كيفما تصورت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات ، وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا ، وملة واحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعذارهم ، وذلك قوله تعالى : أن أقيموا الدين الخ .

ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين نهاهم عن الاختلاف فيه فقال :

{ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله ، وطاعة رسوله ، وقبول شرائعه فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان ، فلا ينبغي الخلاف في مثلها ، وليس هذا من فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الإمارات ، وتتباين فيها الأفهام ، فإنها من مطارح الاجتهاد ، ومواطن الخلاف .

قال القرطبي في الآية أي اجعلوه دائما قائما مستمرا محفوظا مستقرا ، من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث ، { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } .

واختلفت الشرائع وراء هذه في أحكامه حسبما أراد الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم والله أعلم .

قال قتادة في الآية : ألا تعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة وقال على الجماعة رحمة والفرقة عذاب . قم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شق على المشركين فقال :

{ كَبُرَ } أي عظم وشق { عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من التوحيد ورفض الأوثان ، قال قتادة اشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده ، وضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها ، ويظفرها على من ناوأها ، والأولى التعميم لدلالة السياق ولا يمنعه تخصيص المشركين بالذكر كما لا يخفى ثم خص أولياءه فقال :

{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ } استئناف وارد لتحقيق الحق وفيه إشعار بأن منهم من يجيب إلى الدعوة ، والاجتباء الاختيار ، والمعنى يختار لتوحيده والدخول في دينه ، افتعال من الجباية وهي الجمع على طريق الاصطفاء ، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه { مَنْ يَشَاءُ } من عباده ، قال قتادة : يخلص لنفسه من يشاء .

{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ، ويقبل إلى عبادته