اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ} (13)

قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين . . . } الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة .

قال مجاهد{[49125]} : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } من القرآن وشرائع الإسلام { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى } إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة{[49126]} .

واختلفوا في الموصى به ، فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات . وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلا وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم .

وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد في قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة{[49127]} .

فصل

قال ابن الخطيب : في لفظ الآية إشكالات :

أحدهما : قال في أول الآية : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } وفي آخرها : { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } وفي وسطها { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } فما فائدة هذا التفاوت ؟

وثانيها : ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } وقال { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } .

وثالثها : تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك ؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد ، وهو مشكل ، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة{[49128]} .

واعلم أن المقصود من الآية أن يقال : شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته ، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام ؛ لأنها مختلفة متفاوتة ، قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] فوجب أن يكون المراد منه ( الأمور ){[49129]} التي لا تختلف باختلاف الشرائع ، وهو الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ( وأصول الدين ){[49130]} .

فصل

استدل بعضهم بقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر متعبداً{[49131]} بشريعة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام ، وأجيب : بأنه عطف عليه سائر الأنبياء ، فدل ذلك على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل{[49132]} .

قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } يجوز فيها أوجه :

أحدها : أن تكون مصدرية في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين المشروع توحيد الله{[49133]} .

الثاني : أنها في محل نصب بدلاً من الموصول ، كأنه قيل : شرع لكم ما وصَّى به نوحاً توحيد الله{[49134]} .

الثالث : أنها في محل جر بدلاً من الدين{[49135]} .

الرابع : أنها في محل جر أيضاً . بدلاً من الهاء{[49136]} .

الخامس : أن تكون مفسِّرة{[49137]} ؛ لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول .

قوله : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من التوحيد ، ورفض الأوثان .

قوله : «الله يَجْتَبِي » أي يصطفي { إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ } يهدي إليه من يشاء يصطفي لدينه من عباده من يشاء { ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } يقبل إلى طاعته . والاجتباء يدل على الضم ومنه : جبى الخَراجَ واجْتَبَى{[49138]} الماء في الحوض فقوله : «الله يجتبي » أي يضم إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة{[49139]} .

فصل

احتج نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : إنه تعالى أخبر بأن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والنزاع ، والله تعالى ذكر في معرض المنَّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ، المعلوم أن فتح باب القياس يُفْضِي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحسَّ شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرماً{[49140]} .


[49125]:البغوي السابق.
[49126]:الرازي السابق 27/154.
[49127]:انظر البغوي السابق والقرطبي 16/10.
[49128]:في الرازي وبالجملة فالمقصود من الآية ..الخ.
[49129]:سقط من ب.
[49130]:زيادة عن الرازي وانظر تفسيره 27/156.
[49131]:في الرازي مبعوثا.
[49132]:المرجع السابق.
[49133]:الزمخشري في الكشاف 3/464.
[49134]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/346.
[49135]:الدر المصون 4/749.
[49136]:قاله العكبري في التبيان 1132.
[49137]:السابق.
[49138]:في ب واجتباء بلفظ الاسمية وانظر الرازي 27/157 ولسان العرب (جبى) قال: جبى الماء والحوض والخراج يجباه ويجبيه جمعه وجبى يجبى مما جاء نادرا مثل أبى يأبى اللسان جبى 541.
[49139]:قاله الرازي في تفسيره 27/157.
[49140]:السابق.