تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

أي : فلما أتاها رأى{[21962]} منظرًا هائلا عظيمًا ، حيث انتهى إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدًا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء .

قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارًا ، إنما كانت نورًا{[21963]} يَتَوَهَّج .

وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين . فوقف موسى متعجبًا مما رأى ، فنودي أن بورك من في النار . قال ابن عباس : [ أي ]{[21964]} قُدّس .

{ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من الملائكة . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - [ و ]{[21965]} هو الطيالسي - حدثنا شعبة والمسعودي ، عن عمرو بن مُرَّة ، سمع أبا عُبَيْدة يحدث ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل{[21966]} . زاد المسعودي : " وحجابه النور - أو النار - لو كشفها لأحْرَقَتْ سُبُحات وجهه كل شيء أدركه بصره " . ثم قرأ أبو عُبَيْدة : { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } {[21967]}

وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيح لمسلم ، من حديث عمرو بن مُرَّة ، به{[21968]} .

وقوله : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي يفعل ما يشاء ولا يشبه شيئا من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم ، المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد ، المنزه عن مماثلة المحدثات .


[21962]:- في ف : "ورأى".
[21963]:- في ف : "وإنما نور".
[21964]:- زيادة من ف ، أ.
[21965]:- زيادة من ف ، أ.
[21966]:- في ف : "عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل".
[21967]:- ورواه أحمد في مسنده (4/401) من طريق وكيع عن المسعودي بنحوه.
[21968]:- صحيح مسلم برقم (179).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

والضمير في { جاءها } للنار التي رآها موسى ، وقوله { أن بورك } يحتمل أن تكون { أن } مفسرة ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على تقدير «بأن بورك » ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير نودي أنه قاله الزجاج ، وقوله { بورك } معناه قدس وضوعف خيره ونمي ، والبركة مختصة بالخير ، ومن هذا قول أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب :

بورك الميت الغريب كما بو *** رك ينع الرمان والزيتون{[8986]}

وبارك متعد بغير حرف تقول العرب باركك الله{[8987]} وقوله { من في النار } اضطرب المتأولون فيه فقال ابن عباس وابن جبير والحسن وغيرهم : أراد عز وجل نفسه وعبر بعضهم في هذا القول عبارات مردودة شنيعة ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أراد النور ، وقال الحسن وابن عباس : أراد بمن حولها الملائكة وموسى .

قال القاضي أبو محمد : فأما قول الحسن وغيره فإنما يتخرج على حذف مضاف بمعنى { بورك مَن } قدرته وسلطانه { في النار } والمعنى في النار على ظنك وما حسبت ، وأما القول بأن { من } للنور فهذا على أن يعبر على النور بمن من حيث كان من نور الله ويحتمل أن تكون من الملائكة لأن ذلك النور الذي حسبه موسى ناراً لم يخل من الملائكة ، { ومن حولها } يكون لموسى عليه السلام وللملائكة المطيفين به ، وقرأ أبي بن كعب «أن بوركت النار » ، كذا حكى أبو حاتم وحكى ابن جني أنه قرأ «تباركت النار ومن حولها » ، وحكى الداني أبو عمرو أنه قرأ «ومن حولها من الملائكة » ، قال : وكذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة{[8988]} ، وقوله تعالى : { وسبحان الله رب العالمين } يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى ، ويحتمل أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام اعتراضاً بين الكلامين ، والمقصد به على كلا الوجهين تنزيه الله تعالى مِمَّا عسى أن يخطر ببال في معنى النداء من الشجرة وكون قدرته وسلطانه في النار وعود من عليه ، أي هو منزه في جميع هذه الحالات عن التشبيه والتكييف ، قال الثعلبي : وإنما الأمر كما روي أن في التوراة جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من فاران ، المعنى ظهرت أوامره بأنبيائه في هذه الجهات{[8989]} وفاران جبل مكة .


[8986]:البيت في (اللسان- برك) والرواية فيه: "نضح الرمان" بدلا من "نبع الرمان"، قال: "قال الأزهري: معنى بركة الله علوه على كل شيء قال أبو طالب: بورك ...البيت".
[8987]:قال في (اللسان- برك) : "بارك الله الشيء وبارك فيه وعليه". وقال الفراء: "والعرب تقول: "باركك الله وبارك فك" وقال الثعلبي: "العرب تقول: باركك الله وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات" ثم أنشد قول الشاعر: فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب وقال عبد الله بن الزبير: فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك الفداء ومعنى هذا أن (بارك) تتعدى بالحرف وبغير الحرف.
[8988]:قال النحاس عما رواه الداني ومكي من قراءة أبي وابن عباس ومجاهد وعكرمة: "ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى". وقال أبو الفتح في قراءة أبي: "تباركت"- ورواها: "تباركت الأرض": - "هو تفاعل من البركة، وهو تأكيد لمعنى البركة، كقولك: (تعالى الله)، فهو أبلغ من (علا)، وأصل هذا من فعل في الفعل، فقطعت وكسرت أقوى معنى من قطعت وكسرت، وعليه جاء قوله تعالى: {أخذ عزيز مقتدر} فهو أبلغ من قادر، ولهذا أيضا جاء قوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، فقد عبر عن لفظ الحسنة بـ (كسب) وذلك لاحتقار الحسنة إلى ثوابها، لقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، وجاء (اكتسب) في السيئة تنفيرا منها، وتهويلا وتشنيعا بارتكابها.
[8989]:قال القرطبي: "فمجيئه من سيناء بعثه موسى عليه السلام منها، وإشراقه من ساعير بعثه المسيح عليه السلام منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم منها، وفاران: مكة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

أُنث ضمير { جاءها } جرياً على ما تقدم من تسمية النور ناراً بحسب ما لاح لموسى . وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه ، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب ، فقوله : { أن بورك من في النار ومن حولها } هو بعض ما اقتضاه قوله في طه ( 12 ) : { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى } لأن معنى بورك قُدّس وزُكِّيَ .

وفعل ( بارك ) يستعمل متعدياً ، يقال : باركك الله ، أي جعل لك بركة وتقدم بيان معنى البركة في قوله تعالى : { للَّذِي بِبَكَّة مباركاً } في آل عمران ( 96 ) ، وقوله { وبركاتٍ عليك وعلى أمم ممّن معك } في سورة هود ( 48 ) . و ( أن ) تفسيرية لفعل { نُودِيَ } لأن فيه معنى القول دون حروفه ، أي نودي بهذا الكلام .

و { مَن في النار } مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطاً به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف ، فعبر عنه ب { مَن في النار } وهو نفسه .

والعدول عن ذِكره بضمير الخِطاب كما هو مقتضى الظاهر ، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر ، لأن في معنى صلة الموصول إيناساً له وتلطفاً كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ « قُم أبَا تراب » وكثيرٌ التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطَّف به من أحواله . وهذا الكلام خبر هو بشارة لموسى عليه السلام ببركة النبوءة .

ومَن حَوْل النار : هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسُه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن الله تعالى . فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر { مَن } الموصولة في الموضعين ، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة . وقيل إن قوله { أن بورك من في النار } إنشاء تحية من الله تعالى إلى موسى عليه السلام كما كانت تحية الملائكة لإبراهيم { رحمتُ الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] أي أهل هذا البيت الذي نحن فيه .

و { سبحان الله رب العالمين } عطف على ما نودي به موسى على صريح معناه إخباراً بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم موسى أمرين : أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى ، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان . ويجوز أن يكون { سبحان الله } مستعملاً للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكُّر تنزيهه وتقديسه .

وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى وإنما يُعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية .

فالمعنى : ونَزِّه الله تنزيهاً عن كل ما لا يليق به ، ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالاً في ذلك المكان .

وإرداف اسم الجلالة بوصف { رب العالمين } فيه معنى التعليل للتنزيه عن شؤون المحدثات لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شؤونهم .