فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

{ فلما جاءها } أي النار التي أبصرها { نودي } من جانب الطور { أن بورك من في النار ومن حولها } ( أن ) هي المفسرة لما في النداء من معنى القول ، أي قيل له : بورك أو هي مصدرية أي بأن بورك ، أي بارك الله أي ناداه بأنا قدسناك ، وطهرناك ، واخترناك للرسالة . وقيل : هي المخففة من المثقلة ، وتقديره بأنه بورك ، واسمها ضمير الشأن ، وبورك خبرها ، وجاز ذلك من غير عوض ، وإن منعه الزمخشري ، أي لم يحتج هنا إلى فاصل ، لأن قوله بورك دعاء والدعاء يخالف غيره في أحكام كثيرة . وقرئ أن بوركت النار .

وحكى الكسائي عن العرب باركك الله وبارك فيك وعليك ولك . وكذلك حكى هذا الفراء . قال ابن جرير : قال بورك من في النار ، ولم يقل بورك على من في النار ، على لغة من يقول : باركك الله ، أي بورك ، وقدس ، وطهر من النار ، وهو موسى ، وليس هو فيها حقيقة ؛ بل في المكان القريب منها وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حييّ إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } قاله القرطبي .

وقال السدي : كان في النار ملائكة ، والنار هنا هي مجرد النور ، ولكنه ظن موسى أنها نار ، فلما وصل إليها وجدها نورا ، وعن الحسن ، وسعيد بن جبير : أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه أي نوره أو قدرته وسلطانه . وقيل : بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة .

قال الواحدي : ومذهب المفسرين أن المراد بالنار هنا النور ، وعن ابن عباس قال : يعني تبارك وتعالى نفسه ، كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة ؛ وعنه قال : كان الله في النور ، نودي من النور ومن حولها . قال الملائكة ، وعنه قال : ناداه الله هو في النور وعنه قرئ بوركت النار ، وفي مصحف أبي بن كعب : بوركت النار ، أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين .

وعن ابن عباس ، بورك قال : قدس ، وقيل : المراد - ( من ) غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها . واخرج عبد بن حميد ، وابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل وحجابه النور ، لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره . ثم قرأ أبو عبيدة { أن بورك من في النار ومن حولها ، وسبحان الله رب العالمين } والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة .

وفي التوراة : جاء الله من سيناء ، وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران . والمراد بعثة موسى من سيناء ، وبعثة عيسى من ساعير ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم من فاران ، وهو اسم مكة ، ثم نزه سبحانه نفسه عن السوء فقال :

{ سبحان الله رب العالمين } فيه تعجيب لموسى من ذلك هو من جملة ما نودي به ، وإنما وقع التعرض للتنزيه في هذا المقام لدفع ما ربّ أن يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري ، الجاري على العادة الخلقية أن الكلام الذي يسمعه في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ، ككلام الخلق ، أو المتكلم به في مكان أو جهة قاله الحفناوي .