اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

قوله : «نُودِي » في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :

أحدها{[38276]} : أنه ضمير موسى ، وهو الظاهر ، وفي «أن » حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها المفسرة ، لتقدم ما هو بمعنى القول{[38277]} .

والثاني : أنها الناصبة للمضارع ، ولكن وصلت هنا بالماضي ، وتقدم تحقيق ذلك ، وذلك على إسقاط الخافض ، أي : نودي موسى بأن بورك{[38278]} .

الثالث : أنها المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و «بورك » خبرها ، ولم يحتج هنا إلى فاصل ، لأنه دعاء{[38279]} ، وقد تقدم نحوه في النور ، في قوله : { أَنْ غَضِبَ } [ النور : 9 ] - في قراءته فعلاً ماضياً{[38280]} - قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، والتقدير{[38281]} : بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة{[38282]} ؟ .

قلت : لا ؛ لأنَّه لا بدَّ من ( قَدْ ) ، فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ .

قلت : لا يصحّ ، لأنها علامة ، والعلامة لا تحذف{[38283]} انتهى .

فمنع أن تكون مخففة لما ذكر ، وهذا بناء منه على أنَّ «بُورِكَ » خبر لا دعاء ، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى ( الفاصل كما تقدم ، وقد تقدم فيه استشكال ، وهو أن الطلب لا يقع خبراً في هذا الباب ، فكيف وقع هذا خبراً ل ( أن ) المخففة ، وهو دعاء .

الثاني من الأوجه الأول : أن القائم مقام ){[38284]} الفاعل نفس «أَنْ بُورِكَ » على حذف حرف الجرّ ، أي : بأن بورك ، ف ( أَنْ ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل ، وإمّا مخففة{[38285]} .

الثالث : أنه ضمير المصدر{[38286]} المفهوم من الفعل ، أي : نودي النِّداء ، ثم فسِّر بما بعده{[38287]} ومثله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .

قوله : { مَنْ فِي النَّارِ } مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل ل «بُورِكَ »{[38288]} ، وبَارَكَ يتعدى بنفسه ، ولذلك{[38289]} بُنِيَ للمفعول ، يقال : بَارَكك اللَّهُ ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ ، وبَارَكَ فِيكَ ، وَبَارَكَ لَكَ{[38290]} ، وقال الشاعر :

3930 - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً *** وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ{[38291]}

وقال عبد الله بن الزبير :

3931 - فبُورك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ *** إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ{[38292]}

وقال آخر :

3932 - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا *** بُورِكَ{[38293]} نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون{[38294]}

فصل{[38295]} :

والمراد ب «مَنْ » إما الباري تعالى ، وهو على حذف مضاف ، أي من قدرته وسلطانه في النار{[38296]} ، وقيل المراد به موسى والملائكة ، وكذلك ب «مَنْ حَوْلَهَا » ، وقيل المراد ب «مَنْ » غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها{[38297]} ، فالأول مروي عن ابن عباس ، وروى مجاهد عنه أنه قال : معناه بوركت النار{[38298]} . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً ، قال : سمعت أبيّاً يقرأ : { أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا }{[38299]} و «مَنْ » : قد تأتي بمعنى ( ما ) كقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] ، و ( مَا ) قد تكون صلة في الكلام ، كقوله{[38300]} : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ }{[38301]} ، ومعناه : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام{[38302]} ، وقال الزمخشري : { بُورِكَ مَن فِي النار } : بورك من في مكان النار ومن حولها : مكانها ، ومكانها : هي البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى{[38303]} : { مِن شاطئ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] وتدل عليه قراءة أبيّ{[38304]} .

قوله : «وَسُبْحَانَ اللَّهِ » فيه أوجه :

أحدها : أنه من تتمّة النداء : أي : نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة ، أي : نودي بمجموع الأمرين{[38305]} .

الثاني : أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد – عليه الصلاة والسلام{[38306]} - ، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة{[38307]} .

الثالث : أنّ معناه وبُورِكَ من{[38308]} سَبَّحَ اللَّهَ ، يعني أنه حذف ( مَنْ ) وصلتها ، وأبقى معمول الصلة ، إذ التقدير : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، ومن قال : سُبْحَانَ اللَّهِ{[38309]} و «سُبْحَانَ » في الحقيقة ليس معمولاً لقال ، بل لفعل من لفظه ، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول .

فصل :

روي{[38310]} عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : { بُورِكَ مَن فِي النار } يعني : قُدِّس من في النار ، وهو الله ، عنى به نفسه على معنى : أنه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها ، كما روي أنه مكتوب في التوراة : «جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران » ، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح ، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها ، وفاران : مكة . وهل كان ذلك نوره عز وجل ؟ .

قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعالى ، كما جاء في الحديث : «حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ{[38311]} ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه{[38312]} »{[38313]} والسبب الذي لأجله بوركت البقعة ، وبورك من فيها وحواليها : حدوث هذا الأمر العظيم فيها ، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً ، وإظهار المعجزات عليه ، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 7 ] وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام{[38314]} ومهبط الوحي ، وكفاتهم أحياء وأمواتاً{[38315]} .


[38276]:في ب: أحدهما. وهو تحريف.
[38277]:انظر الكشاف 3/134، التبيان 2/1004، البحر المحيط 7/55.
[38278]:انظر التبيان 2/1004، البحر المحيط 7/55.
[38279]:المرجعان السابقان.
[38280]:وهي قراءة نافع. انظر السبعة(454).
[38281]:في الكشاف: وتقديره نودي.
[38282]:والقصة: ليس في عبارة الزمخشري.
[38283]:في الكشاف: لأنها علامة لا تحذف. الكشاف 3/134.
[38284]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38285]:انظر البيان 2/219، التبيان 2/1004.
[38286]:في ب: المضمر.
[38287]:انظر التبيان 2/1004، البحر المحيط 7/55.
[38288]:انظر التبيان 2/1004.
[38289]:في ب: وكذلك.
[38290]:انظر اللسان (برك).
[38291]:البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في القرطبي 13/158، البحر المحيط 7/55. والشاهد فيه بناء الفعل (بارك) للمفعول، لأنه فعل متعد.
[38292]:البيت من بحر الوافر، قاله عبد الله بن الزبير، وهو في الحماسة البصرية 1/439، البحر المحيط 7/55، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.
[38293]:في ب: ورك في.
[38294]:البيت من بحر الخفيف، قاله أبو طالب بن عبد المطلب في رثاء مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو في ديوانه (21) برواية: بورك البيت...كما *** بورك نبع ...والتين وتفسير ابن عطية 11/171، المفضليات (193)، اللسان (برك)، وفيه (نضح) مكان (نبع) البحر المحيط 7/55، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.
[38295]:فصل: سقط من ب.
[38296]:انظر البحر المحيط 7/55-56.
[38297]:المرجع السابق.
[38298]:انظر البغوي 6/260.
[38299]:المرجع السابق 6/261.
[38300]:في ب: لقوله.
[38301]:من قوله تعالى: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب}[ص:11]. والاستدلال بها على أن (ما) زائدة. البيان 2/313، التبيان 2/1098.
[38302]:انظر البغوي 6/261.
[38303]:تعالى: سقط من ب.
[38304]:انظر المحتسب 2/134.
[38305]:قال أبو حيان: (والظاهر أن قوله: "وسبحان الله رب العالمين" داخل تحت قوله"نودي"). البحر المحيط 7/56.
[38306]:في ب: صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم.
[38307]:انظر البحر المحيط 7/56.
[38308]:من: سقط من ب.
[38309]:وعليه فهو من كلام الله تعالى. حكاه القرطبي وأبو حيان عن ابن شجرة. انظر القرطبي 13/160، البحر المحيط 7/56.
[38310]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 6/261.
[38311]:وجهه: سقط من ب.
[38312]:انظر تفسير ابن كثير 3/357.
[38313]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 6/261.
[38314]:في ب: عليهم الصلاة والسلام.
[38315]:انظر الفخر الرازي 24/182.