محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

{ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي بورك من في مكان النار ومن حول مكانها . ومكانها البقعة التي حصلت فيها . وتدل عليه قراءة أبي { تباركت الأرض ومن حولها } وعنه : بوركت النار . والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها ، حدوث أمر ديني فيها ، وهو تكليم الله موسى ، واستنباؤه له ، وإظهار المعجزات عليه . ورب خير يتجدد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يمنه في أباعدها . فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة المباركة ؟ كذا في ( الكشاف ) .

وقال السمين : ( بارك ) يتعدى بنفسه . فلذلك بني للمفعول : باركك الله ، وبارك عليك ، وبارك فيك وبارك لك . والمراد ب ( من ) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف ، أي من قدرته وسلطانه في النار . وقيل : المراد به موسى والملائكة . وكذلك قوله : { ومن حولها } وقيل المراد ب ( من ) غير العقلاء . وهو النور والأمكنة التي حولها . انتهى .

ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل مكان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام . قال : ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله {[5960]} : { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } وحقت أن تكون كذلك . فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ، ومهبط الوحي إليهم ، وكفاتهم أحياء وأمواتا .

ثم قال : ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه ، هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة . انتهى .

وقال القرطبي : هذا تحية من الله تعالى لموسى ، وتكرمة له . كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا {[5961]} : { رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت } .

وعن ابن عباس : ( لم تكن النار نارا ، وإنما كانت نورا يتوهج ) .

وعنه : ( هي نور رب العالمين ) .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه . ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل . حجابه النور أو النار . لو كشفه لأحرقت سبحات وجه كل شيء أدركه بصره ) ثم قرأ أبو عبيدة : ( أن بورك من في النار ومن حولها ) .

قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في ( صحيح مسلم ) {[5962]}من حديث عمرو بن مرة { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسماوات بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات . قاله ابن كثير .

وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه ، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه .


[5960]:(21 الأنبياء 71).
[5961]:(11 هود 73).
[5962]:أخرجه في: 1 – كتاب الإيمان، حديث رقم 295 (طبعتنا).