البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

والظاهر أن الضمير في { جاءها } عائد على النار ، وقيل : على الشجرة ، وكان قد رآها في شجرة سمر خضراء .

وقيل : عليق ، وهي لا تحرقها ، كلما قرب منها بعدت .

و { نودي } المفعول الذي لم يسم فاعله ، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام .

و { أن } على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها ، ويجوز أن تكون مصدرية .

أما الثنائية التي تنصب المضارع ، وبورك صلة لها ، والأصل حرف الجر ، أي بأن بورك ، وبورك خبر .

وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر .

وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وتقديره بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا ، لأنه لا بد من قد .

فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصح ، لأنها علامة ولا تحذف . انتهى .

ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وبورك فعل دعاء ، كما تقول : بارك الله فيك .

وإذا كان دعاء ، لم يجز دخول قد عليه ، فيكون كقوله تعالى :

{ والخامسة أن غضب الله عليها } في قراءة من جعله فعلاً ماضياً ، وكقول العرب : إما أن جزاك الله خيراً ، وإما أن يغفر الله لك ، وكان الزمخشري بنى ذلك على { أن بورك } خبر لا دعاء ، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأجاز الزجاج أن تكون { أن بورك } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو على إسقاط الخافض ، أي نودي بأن بورك ، كما تقول : نودي بالرخص .

ويجوز أن تكون أن الثنائية ، أو المخففة من الثقيلة ، فيكون بورك دعاء .

وقيل : المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء ، أي نودي هو ، أي النداء ، ثم فسر بما بعده .

وبورك معناه : قدّس وطهر وزيد خيره ، ويقال : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك .

وقال الشاعر :

فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً *** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

وقال آخر :

بورك الميت الغريب كما *** بورك نبع الرمان والزيتون

وقال عبد الله بن الزبير :

فبورك في بنيك وفي بنيهم *** إذا ذكروا ونحن لك الفداء

و { من } : المشهور أنها لمن يعلم ، فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن وغيرهم : أراد تعالى بمن في النار ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى .

وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار .

وقيل لموسى عليه السلام : أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيه النار .

وقال السدّي : من للملائكة الموكلين بها .

وقيل : من تقع هنا على ما لا يعقل .

فقال ابن عباس : أراد النور .

وقيل : الشجرة التي تتقد فيها النار .

وقيل : والظاهر في { ومن حولها } أنه لمن يعلم تفسير { يا موسى } ، وفسر بالملائكة ، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل أبو عمرو الداني : وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة ، وتحمل هذه القراءة على التفسير ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، وفسر أيضاً بموسى والملائكة عليهم السلام معاً .

وقيل : تكون لما لا يعقل ، وفسر بالأمكنة التي حول النار ؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم ، وهو تكليم الله لموسى عليه السلام ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته .

والظاهر أن قوله : { وسبحان الله رب العالمين } داخل تحت قوله : { نودي } .

أي لما نودي ببركة من ذكر ، نودي أيضاً بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال ، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى ، فإن ذلك دال على التحيز ، فأتى بما يقتضي التنزيه .

وقال السدّي : هو من كلام موسى ، لما سمع النداء قال : { وسبحان الله رب العالمين } تنزيهاً لله تعالى عن سمات المحدثين .

وقال ابن شجرة : هو من كلام الله ، ومعناه : وبورك من سبح الله ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ .

وقيل : { وسبحان الله رب العالمين } خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام ، وهو اعتراض بين الكلامين ، والمقصود به التنزيه .