تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار ، قاله مجاهد والحسن ، والسُّدِّي ، فقال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي : بَرْد شديد ، قاله ابن عباس ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير وقتادة والحسن ، والضّحّاك ، والرَّبِيع بن أنس ، وغيرهم . وقال عطاء : بَرْد وجَلِيد . وعن ابن عباس أيضًا ومجاهد { فِيهَا صِرٌّ } أي : نار . وهو يرجع إلى الأول ، فإن البرد الشديد - سيّما{[5585]} الجليد{[5586]} - يحرق الزروع والثمار ، كما يحرق الشيء بالنار { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أي : أحرقته ، يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جدَادُه أو حَصَاده فدمَّرَتْه وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع ، فذهبت به وأفسدته ، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه . فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرةَ هذا الحرث بذنوب صاحبه . وكذلك هؤلاء بَنَوْهَا على غير أصْل وعلى غير أساس { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }


[5585]:في و: "لا سيما".
[5586]:في جـ، ر، أ: "والجليلد".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

وقوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } الآية ، معناه : المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمر فيه فهبت عليه { ريح فيها صر } محرق فأهلكته ، فوقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، ذكر الله عز وجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول ، وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين ، وهذه غاية البلاغة والإيجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء } {[3446]} ، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج{[3447]} ، «تنفقون » بالتاء على معنى قل لهم يا محمد ، و { مثل } رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله { كمثل } ، و { ما } بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن { ينفقون } يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك عندهم قربة ، وقال السدي : { ينفقون } معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون ، وذهب بعض المفسرين إلى أن { ينفقون } يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه ، أي هي «كالريح التي فيها صر » ، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه ، كما تبطل الريح الزرع ، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق ، و «الصر » البرد الشديد ، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين : «الصر » البرد ، وتسميه العرب الضريب ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن اللفظة من التصويت ، من قولهم صر الشيء ، ومنه الريح الصرصر ، قال الزجاج ، فالصر صوت النار التي في الريح .

قال القاضي : «الصر » هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحواً مما تحرق النار ، و «الحرث » شامل للزرع والثمار ، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض ، وهي حقيقة الحرث ، ومنه الحديث ( لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية ){[3448]} ، وقال عز وجل : { ظلموا أنفسهم } فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح ، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه ؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله ، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته ، إذ عقوبته أرجى{[3449]} ، وأخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى ، كما روي في " جوف العير " {[3450]} وغيره ، وأيضاً فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد ، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على قوله : إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه ، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي : إلى أن قوله تعالى : { حرث قوم ظلموا أنفسهم } معناه زرعوا في غير أوان الزراعة .

قال أبو محمد : وينبغي أن يقال في هذا : { ظلموا أنفسهم } بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل ، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، وهذا المنزع يشبه من جهة ما قول امرىء القيس : [ المتقارب ]

وسالفة كَسحوقِ اللَّيا . . . نِ أَضرِمَ فيها الغويُّ السعرُ{[3451]}

فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق ، فتطفىء النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود ، فيجيء الشبه حسناً ، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس وأسحق{[3452]} فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به ، والضمير في { ظلمهم } للكفار الذين تقدم ضميرهم في { ينفقون } وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم ، ولا ليبين ظلمهم وأيضاً فقوله : { ولكن أنفسهم يظلمون } ، يدل على فعل الحال في حاضرين .


[3446]:- من الآية (171) من سورة البقرة.
[3447]:- هو أبو داود المدني مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت (تقريب التهذيب 1/ 501)
[3448]:- في موطإ الإمام مالك 1/247 أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على دمشق في الصدقة "إنما الصدقة في العين، والحرث، والماشية". قال مالك: ولا تكون الصدقة إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية.
[3449]:- اختلفت النسخ في هذه اللفظة، فهي: أرجى، وأوحى، وأوخى، ورجا مهموزا وغير مهموز يأتي بمعنى الخوف والتأخير، وأوحى: بمعنى أسرع، ويبعد معنى أوخى الذي هو القصد والتحري.
[3450]:- الجوف اسم واد في أرض عاد فيه ماء وشجر، لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، فيه من كل الثمار، حماه رجل اسمه حمار بن طويلع أو مويلع، وإلى قصته يشير ابن عطية وهي مذكورة في عدة كتب منها: "اللسان" في مادة: (جوف)، والميداني في "الأمثال" في مادة: (أكفر من حمار)، و"معجم البلدان 3/174" و "حياة الحيوان" في: (الحمار الوحشي). وتشير الأسطورة كما رواها اللسان إلى أن هذا الرجل كان له بنون فماتوا كلهم فكفر بالله، وقتل كل من مر به، ثم أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته والجوف، فصار الجوف ملعبا للجن لا يتجرأ أحد على سلوكه، وفيه قال الشاعر: وخرق كجوف العير قفر مضلة. أراد (كجوف الحمار) فلم يستقم له فقال: كجوف العير.
[3451]:- السالفة: جانب العنق، وسحوق بفتح السين: طويلة. والبيان: النخل، واحدتها: لينة، وأضرم: أوقد. الغوي: الغاوي. السعر: النار: يصف فرسا له.
[3452]:- أسحق بمعنى يبس وجفّ. وفي بعض النسخ: واستحق، أي استحق النار.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

استئناف بياني لأن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم . . . } الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى .

ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً ، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها ، المخيِّبِ آخِرُها ، حين يحبطها الكفر ، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، تشبيه المعقول بالمحسوس . ولمَّا كان التَّشبيه تمثيلياً لم يُتَوخ فيه مُوالاةُ ما شبّه به إنفاقهم لأداةِ التَّمثيل ، فقيل : كمثل ريح ، ولم يُقل : كمثل حَرْث قوم .

والكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى { إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة [ البقرة : 164 ] .

( والصّر : البرْد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق ، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرْد وإنَّما الصرّ اسم البرد . وأمّا الصرصر فهو الرسح الشديدة وقد تكون باردة . ومعنى الآية غني عن التأويل ، وجوز في > أن يكون الصرّ هنا اسماً للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر . وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الاطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب .

وفي قوله { فيها صرّ } إفادة شدّة برد هذه الريح ، حتَّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها ، وهي تحمله إلى الحرث .

والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول : أي محروثَ قوم أي أرضاً محروثة والمراد أصابت زرعَ حرث . وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى { والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] في أول السورة .

وقوله { ظلموا أنفسهم } إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعاً وتشويهاً وليس جُزءاً من الهيئة المشبّه بها . وقد يذكر البلغاء مع المُشَبَّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير :

شُجَّت بذي شبم من ماء مَحْنيَة *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمول

تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفرطهُ *** من صَوْب سَارِيَةٍ بيــض يعاليل

فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه .

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله { مثل ما ينفقون } غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله { لن تغني عنهم أموالهم } .

وقوله { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا . والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه .