وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي : مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة ، فليلزم طاعة الله ، فإنه يحصل له مقصوده ؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعها ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ النساء : 139 ] .
وقال تعالى : { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ يونس : 65 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] .
قال مجاهد : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } بعبادة الأوثان ، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
وقال قتادة : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي : فليتعزز بطاعة الله عز وجل .
وقيل : مَنْ كان يريد علْم العزة ، لمن هي ، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } ، حكاه ابن جرير .
وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } يعني : الذكر والتلاوة والدعاء . قاله غير واحد من السلف .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ ، أخبرني جعفر بن عَوْن ، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه المخارق بن سليم{[24478]} قال : قال لنا عبد الله - هو ابن مسعود - إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله : إن العبد المسلم إذا قال : " سبحان الله وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، تبارك الله " ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن ، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل ، ثم قرأ عبد الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي{[24479]} ، عن عبد الله بن شقيق قال{[24480]} : قال كعب الأحبار : إن ل " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " لدويا حول العرش كدويّ النحل ، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن ، والعمل الصالح في الخزائن . {[24481]}
وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار ، رحمه الله ، وقد روي مرفوعًا .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا موسى - يعني : ابن مسلم الطحان - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه - أو : عن أخيه{[24482]} - عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذين يذكرون من جلال الله ، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله ، يتعاطفن حول العرش ، لهن دوي كدوي النحل ، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به ؟ " . {[24483]}
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف ، عن يحيى بن سعيد{[24484]} القطان ، عن موسى بن أبي [ عيسى ]{[24485]} الطحان ، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبيه - أو : عن أخيه - عن النعمان بن بشير ، به . {[24486]}
وقوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الكلم الطيب : ذكر الله ، يصعد به إلى الله ، عز وجل ، والعمل الصالح : أداء فرائضه . ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ، رد كلامه على عمله ، فكان أولى به .
وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب . وكذا قال أبو العالية ، وعكرمة ، وإبراهيم النَّخعِيّ ، والضحاك ، والسُّدِّيّ ، والربيع بن أنس ، وشَهْر بن حَوْشَب ، وغير واحد [ من السلف ] . {[24487]}
وقال إياس بن معاوية القاضي : لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام .
وقال الحسن ، وقتادة : لا يقبل قولٌ إلا بعمل .
وقوله : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } : قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وشَهْر بن حَوْشَب : هم المراؤون بأعمالهم ، يعني : يمكرون بالناس ، يوهمون أنهم في طاعة الله ، وهم بُغَضَاء إلى الله
عز وجل ، يراؤون بأعمالهم ، { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 142 ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المشركون .
والصحيح أنها عامة ، والمشركون داخلون بطريق الأولى ، ولهذا قال : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } ، أي : يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى ، فإنه ما أسر عبد{[24488]} سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر . فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل يُكشَف{[24489]} لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية .
وقوله تعالى : { من كان يريد العزة } يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يريد { من كان يريد العزة } بمغالبة { فلله العزة } أي ليست لغيره ولا تتم إلا له وهذا المغالب مغلوب ونحا إليه مجاهد ، وقال { من كان يريد العزة } بعبادة الأوثان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بقوله تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً }{[9695]} [ مريم : 81 ]
والمعنى الثاني { من كان يريد العزة } وطريقها القويم ويحب نيلها على وجهها { فلله العزة } أي به وعن أوامره لا تنال عزته إلا بطاعته{[9696]} ، ونحا إليه قتادة . والمعنى الثالث وقاله الفراء { من كان يريد } علم { العزة فلله العزة } أي هو المتصف بها ، و { جميعاً } حال ، وقوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } أي التوحيد والتمجيد وذكر الله ونحوه ، وقرأ الضحاك «إليه يُصعد » بضم الياء ، وقرأ جمهور الناس «الكلم » وهو جمع كلمة ، وقرأ أبو عبد الرحمن «الكلام » ، و { الطيب } الذي يستحسن سماعه الاستحسان الشرعي ، وقال كعب الأحبار : إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل تذكر بصاحبها ، وقوله تعالى : { والعمل الصالح يرفعه } اختلف الناس في الضمير في { يرفعه } على من يعود ، فقالت فرقة يعود على { العمل } ، واختلفت هذه الفرقة فقال قوم الفاعل ب «يرفع » هو { الكلم } أي والعمل يرفعه الكلم وهو قول لا إله إلا الله لأنه لا يرتفع عمل إلا بتوحيد ، وقال بعضهم الفعل مسند إلى الله تعالى أي «والعمل الصالح يرفعه هو » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أرجح الأقوال ، وقال ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وقتادة الضمير في { يرفعه } عائد على { الكلم } أي أن العمل الصالح هو يرفع الكلم .
قال القاضي أبو محمد : واختلفت عبارات أهل هذه المقالة فقال بعضها وروي عن ابن عباس أن العبد إذا ذكر الله وقال كلاماً طيباً وأدى فرائضه ارتفع قوله مع عمله ، وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله ، وقيل عمله أولى به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرده معتقد أهل الحق والسنة ولا يصح{[9697]} عن ابن عباس ، والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله تعالى وقال كلاماً طيباً فإنه مكتوب له متقبل منه وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك ، وأيضاً فإن { الكلم الطيب } عمل صالح وإنما يستقيم قول من يقول إن العمل هو الرافع ل { الكلم } بأن يتأول أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه ، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر لله كانت الأعمال أشرف .
قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله { والعمل الصالح يرفعه } موعظة وتذكرة وحضاً على الأعمال{[9698]} ، وذكر الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يقبل الله قولاً إلا بعمل ولا عمل إلا بنية »{[9699]} ، ومعناه قولاً يتضمن أن قائله عمل عملاً أو يعمله في الأنف ، وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها كالتوحيد والتسبيح فمقبولة على ما قدمناه ، وقرأت فرقة «والعملَ » بالنصب «الصالحَ » على النعت وعلى هذه القراءة ف { يرفعه } مستند إما إلى الله تعالى وإما إلى { الكلم } ، والضمير في { يرفعه } عائد على { العمل } لا غير ، وقوله { يمكرون السيئات } إما أنه عدى { يمكرون } لما أحله محل يكسبون ، وإما أنه حذف المفعول وأقام صفته مقامه تقديره يمكرون المكرات السيئات ، و { يمكرون } معناه يتخابثون ويخدعون وهم يظهرون أنهم لا يفعلون ، و { يبور } معناه يفسد ويبقى لا نفع فيه ، وقال بعض المفسرين يدخل في الآية أهل الربا .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } .
مضى ذكر غرورين إجمالاً في قوله تعالى : { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } [ فاطر : 5 ] ، { ولا يغرنكم بالله الغرور } [ فاطر : 5 ] فأُخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى : { إن الشيطان لكم عدو } [ فاطر : 6 ] وما استتبعه من التنبيه على أَحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذرِ من مَصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقِعين في حبائله والمعافَيْن من أدوائه ، بداراً بتفصيل الأهم والأصللِ ، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا .
وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئاً عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم ، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباعُ يعتزُّون بقوة قادتهم ، لا جرم كانت إرادة العزّة مِلاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض ، وتألبهم على مناوأة الإِسلام ، فوُجّه الخطاب إليهم لكشفِ اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا ، فكل مستمسك بحبل الشرك معرضٍ عن التأمل في دعوة الإِسلام ، لا يُمَسِّكُه بذلك إلا إرادة العزة ، فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من كان ذلك صارفَه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإِسلام وأن ما هم فيه من العزةِ كالعدم .
و { مَن } شرطية ، وجعل جوابها { فلله العزة جميعاً } ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مُقامه واستُغني بها عن ذكره إيجازاً ، وليحصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرُّره في ذهن السامع ، والتقديرُ : من كان يريد العذاب فليستجِبْ إلى دعوة الإِسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى ، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية . وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطإ في زعمه كما في قول الربيع بن زياد العبسي في مقتل مالك بن زهير العبسي :
من كَان مسروراً بمقتل مالك *** فليأتتِ نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبْنَـه *** بالليل قبــل تبلُّج الإِسفار
أراد أن من سَرَّه مقتل مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى ساحة نسوتنا انقلب سروره غمّاً وحزناً إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتِله بادية له ، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلا إذا أُخذ ثأره . هذا ما فسره المرزوقي وهو الذي تلقيتُه عن شيخنا الوزير وفي البيتين تفسير آخر .
وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالى : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ } [ العنكبوت : 5 ] .
وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول النابغة :
فمن يكن قد قضى من خُلّةٍ وطراً *** فإنني منكِ ما قضَّيْتُ أوطاري
ومن يك أمسى بالمدينة رَحله *** فإني وَقَيَّار بها لغريب
فمن يُكلَم يَغْرَضْ فإني ونَاقتي *** بحَجْرٍ إلى أهل الحِمى غَرِضَان
فتقديم المجرور يفيد قصراً وهو قصر ادعائي ، لعدم الاعتداد بما للمشركين من عزة ضئيلة ، أي فالعزة لله لا لهم .
ومنه ما يكون فيه ترتيب الجواب على الشرط في الوقوع ، وهو الأصل كقوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء } [ الإسراء : 18 ] الآية ، وقوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] .
و { جميعاً } أفادت الإِحاطة فكانت بمنزلة التأكيد للقصر الادعائي فحصلت ثلاثة مؤكدات ؛ فالقصر بمنزلة تأكيدين{[337]} و { جميعاً } بمنزلة تأكيد . وهذا قريب من قوله { أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } [ النساء : 139 ] فإن فيه تأكيدين : تأكيداً ب ( إنّ ) وتأكيداً ب { جميعاً } لأن تلك الآية نَزَلت في وقت قوة الإِسلام فلم يحتج فيها إلى تقوية التأكيد . وتقدم الكلام على { جميعاً } عند قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً } في سورة سبأ ( 40 ) .
وانتصب { جميعاً } على الحال من { العزة } وَكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي العزة كلها لله لا يَشذ شيء منها فيثبتُ لغيره ، لأن العزة المتعارفة بين الناس كالعدم إذ لا يخلو صاحبها من احتياج ووهن والعزة الحق لله .
وتعريف { العزة } تعريف الجنس . والعزة : الشرف والحصانة من أن ينال بسوء . فالمعنى : من كان يريد العزة فانصرف عن دعوة الله إبقاء على ما يخاله لنفسه من عزة فهو مخطىء إذ لا عزة له فهو كمن أراق ماء للمع سراب . والعزة الحق لله الذي دعاهم على لسان رسوله . وعزة المولى ينالُ حِزبَه وأولياءَه حظ منها فلو اتبعوا أمر الله فالتحقوا بحزبه صارت لهم عزة الله وهي العزة الدائمة ؛ فإن عزة المشركين يعقبها ذلّ الانهزام والقتل والأسر في الدنيا وذلّ الخزي والعذاب في الآخرة ، وعزة المؤمنين في تزايد الدنيا ولها درجات كمال في الآخرة .
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } .
كما أتبع تفصيل غرور الشيطان بعواقبه في الآخرة بقوله : { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } [ فاطر : 6 ] الآية ، وبذكر مقابل عواقبه من حال المؤمنين ، كذلك أتبع تفصيل غرور الأنفس أهلها بعواقبه وبذكر مقابله أيضاً ليلتقيَ مآلُ الغرورين ومقابلهما في ملْتقىً واحدٍ ، ولكن قدم في الأول عاقبة أهل الغرور بالشيطان ثم ذُكرت عاقبة أضدادهم ، وعكس في ما هنا لجريان ذكر عزة الله فقدم ما هو المناسب لآثار عزة الله في حزبه وجنده .
وجملة { إليه يصعد الكلم الطيب } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً بمناسبة تفصيل الغرور الذي يوقع فيه .
والمقصود أن أعمال المؤمنين هي التي تنفع ليعلم الناس أن أعمال المشركين سعي باطل . والقربات كلُّها ترجع إلى أقوال وأعمال ، فالأقوال ما كان ثناء على الله تعالى واستغفاراً ودعاء ، ودعاء الناس إلى الأعمال الصالحة .
وتقدم ذكرها عند قوله تعالى : { وقولوا قولاً سديداً } في سورة الأحزاب ( 70 ) . والأعمال فيها قربات كثيرة . وكان المشركون يتقربون إلى أصنامهم بالثناء والتمجيد كما قال أبو سفيان يوم أحد : اعْلُ هُبَل ، وكانوا يتحنثون بأعمال من طواف وحج وإغاثة ملهوف وكان ذلك كله مشوباً بالإِشراك لأنهم ينوون بها التقرب إلى الآلهة فلذلك نصبوا أصناماً في الكعبة وجعلوا هُبَل وهو كبيرهم على سطح الكعبة ، وجعلوا إِسافاً ونائلة فوق الصفا والمروة ، لتكون مناسكهم لله مخلوطة بعبادة الآلهة تحقيقاً لمعنى الإِشراك في جميع أعمالهم .
فلما قدم المجرور من قوله : { إليه يصعد الكلم الطيب } أفيد أن كل ما يقدم من الكلم الطيب إلى غير الله لا طائل تحته .
وأما قوله : { والعمل الصالح يرفعه } ف { العمل } مقابل { الكلم } ، أي الأفعال التي ليست من الكلام ، وضمير الرفع عائد إلى معاد الضمير المجرور في قوله : { إليه } وهو اسم الجلالة من قوله { فلله العزة جميعاً } . والضمير المنصوب من { يرفعه } عائد إلى { العمل الصالح } أي الله يرفع العمل الصالح .
والصعود : الإِذهاب في مكال عال . والرفع : نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه ، فالصعود مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر وهو كناية عن القبول لديه . والرفع : حقيقته نقل الجسم من مقرّه إلى أعلى منه وهو هنا كناية للقبول عند عظيم ، لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان . فيكون كلٌّ من ( يَصعد ) و ( يرفعُ ) تبعتيْن قرينتي مكنية بأَن شُبه جانب القبول عند الله تعالى بمكان مرتفع لا يصله إلا ما يصعد إليه .
فقوله : { العمل } مبتدأ وخبره { يرفعه } ، وفي بناء المسند الفعلي على المسند إليه ما يفيد تخصيص المسند إليه بالمسند ، فإذا انضم إليه سياق جملته عقب سياق جملة القصر المشعرُ بسريان حكم القصر إليه بالقرينة لاتحاد المقام إذ لا يتوهم أن يقصر صعود الكلم الطيب على الجانب الإِلهي ثم يجعل لغيره شركة معه في رفع العمل الصالح ، تعين معنى التخصيص ، فصار المعنى : الله الذي يقبل من المؤمنين أقوالهم وأعمالهم الصالحة .
وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإِخبار عنه بجملة { يرفعه } ولم يعطف على { الكلم الطيب } في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين :
أولاهما : الإِيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة لأن معظم العمل الصالح أوسع نفعاً من معظم الكلم الطيب ( عدا كلمة الشهادتين وما ورد تفضيله من الأقوال في السنة مثل دعاء يوم عرفة ) فلذلك أسند إلى الله رفعه بنفسه كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقّاها الرحمان بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، فيربيها له كما يربّي أحدكم فُلُوَّه حتى تصير مثل الجبل » .
وثانيهما : أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته ، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعلة ومفعولة فلا يناسبه إسناد الصعود إليه وإنما يحسن أن يجعل متعلقاً لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع .
{ والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أولئك هو يبور } .
هذا فريق من الذين يريدون العزة من المشركين وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] الآية قاله أبو العالية فعطفهم على { من كان يريد العزة } تخصيص لهم بالذكر لما اختصوا به من تدبير المكر . وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام بذكره .
والمكر : تدبيرُ إلحاققِ الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره ، وفعله قاصر . وهو يتعلق بالمضرور بواسطة الباء التي للملابسة ، يقال : مكر بفلان ، ويتعلق بوسيلة المكر بباء السببية يقال : مكر بفلان بقتله ؛ فانتصاب { السيئات } هنا على أنه وصف لمصدر المكر نائباً مناب المفعول المطلق المبيِّن لنوع الفعل فكأنه قيل والذين يمكرون المكر السيِّىء . وكان حقّ وصف المصدر أن يكون مفرداً كقوله تعالى : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } [ فاطر : 43 ] فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر عُدل عن الإِفراد إلى الجمع وأتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفَعَلاَت من المكر ، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة ، كما جاء ذلك في لفظ ( صالحة ) كقول جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة *** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
أي صالحات كثيرة ، وأنواع مكراتهم هي ما جاء في قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] .
والتعريف في { السيئات } تعريف الجنس . وجيء باسم الموصول للإِيماء إلى أن مضمون الصلة علّة فيما يرد بعدها من الحكم ، أي لهم عذاب شديد جزاء مكرهم . وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دَأبهم وهِجِّيراهم .
ولما توعدهم الله بالعذاب الشديد على مكرهم أنبأهم أن مكرهم لا يروج ولا ينفِق وأن الله سيبطله فلا ينتفعون منه في الدنيا ، ويضرون بسببه في الآخرة فقال { ومكر أولئك هو يبور } .
وعبر عنهم باسم الإِشارة دون الضمير الذي هو مقتضى الظاهر لتمييزهم أكمل تمييز ، فيكنى بذلك عن تمييز المكر المضاف إليهم ووضوحه في علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بما أعلمه الله به منه ، فكأنما أشير إليهم وإلى مكرهم باسم إشارة واحد على سبيل الإِيجاز .
والضمير المتوسط بين { مكر أولئك } وبين { يبور } ضمير فصل إذ لا يحتمل غيره . ومثله قوله تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] .
والراجح من أقوال النحاة قول المازني : إن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع ، وحجته قوله : { ومكر أولئك هو يبور } دون غير المضارع ، ووافقه عبد القاهر الجرجاني في « شرح الإِيضاح » لأبي على الفارسي ، وخالفهما أبو حيان وقال : لم يذهب أحد إلى ذلك فيما علمنا .
وأقول : إن وجه وقوع الفعل المضارع بعد ضمير الفصل أن المضارع يدل على التجدد فإذا اقتضى المقام إرادة إفادة التجدد في حصول الفعل من إرادة الثبات والدوام في حصول النسبة الحكمية لم يكن إلى البليغ سبيل للجمع بين القصدين إلا أن يأتي بضمير الفصل ليفيد الثبات والتقوية لتعذر إفادة ذلك بالجملة الإسلامية . وقد تقدم القول في ذلك عند قوله : { وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] ، فالفصل هنا يفيد القصر ، أي مكرهم يبور دون غيره ، ومعلوم أن غيره هنا تعريض بأن الله يمكر بهم مكراً يصيب المحزّ منهم على حد قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
والبوار حقيقته : كساد التجارة وعدم نَفاق السلعة ، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بضرّ وبين ما ينمِّقه التاجر وما يخرجه من عيابه ويرصفه على مِبْنَاتِه وسط اللَّطِيمة مع السلع لاجتلاب شَرَه المشترين . ثم لا يُقبِل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيمَ كف الخيبة ، فارغ الكف والعيبة .