الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{من كان يريد العزة} المنعة بعبادة الأوثان فليعتز بطاعة الله عز وجل.

{فلله العزة جميعا} جميع من يتعزز فإنما يتعزز بإذن الله عز وجل.

{إليه يصعد الكلم الطيب} العمل الحسن: إلى الله عز وجل يصعد في السماء التوحيد.

{والعمل الصالح يرفعه}: شهادة ألا إله إلا الله ترفع العمل الصالح إلى الله عز وجل في السماء، ذكروا عن ابن عباس أنه قال: {والعمل الصالح يرفعه} الله إليه. ثم ذكر جل ثناؤه من لا يوحده، فقال جل ثناؤه: {والذين يمكرون السيئات} الذين يقولون الشرك.

{لهم عذاب شديد} في الآخرة، ثم أخبر عن شركهم، فقال عز وجل: {ومكر أولئك هو يبور} وقولهم الشرك يهلك في الآخرة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"مَنْ كانَ يُرِيدُ العِزّةَ فَلِلّهِ العِزّةُ جَمِيعا"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: من كان يريد العزّة بعبادة الآلهة والأوثان، فإن العزة لله جميعا...

وقال آخرون: معنى ذلك: من كان يريد العزة فليتعزّز بطاعة الله...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: من كان يريد علم العزّة لمن هي، فإنه لله جميعا كلها، أي كلّ وجه من العزّة فللّه.

والذي هو أولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: من كان يريد العزّة، فبالله فليتعزّز، فللّه العزّة جميعا، دون كلّ ما دونه من الآلهة والأوثان.

وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب، لأن الآيات التي قبل هذه الآية، جرت بتقريع الله المشركين على عبادتهم الأوثان، وتوبيخه إياهم، ووعيده لهم عليها، فأولى بهذه أيضا أن تكون من جنس الحث على فراق ذلك، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، وكانت في سياقها.

وقوله: "إلَيْه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيّب"، يقول تعالى ذكره: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه عليه، "والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ "يقول: ويرفع ذكر العبد ربه إليه عمله الصالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به... عن ابن عباس، قوله: "إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ "قال: الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه فمن ذَكَر الله سبحانه في أداء فرائضه، حُمِل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤدّ فرائضه، رُدّ كلامه على عمله، فكان أولى به...

وقوله: "وَالّذِينَ يَمْكُرُونَ السّيّئاتِ" يقول تعالى ذكره: والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم...

وقوله: "وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ" يقول: وعمل هؤلاء المشركين يَبور، فيبطُل فيذهب، لأنه لم يكن لله، فلم ينفع عامله.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

في آية أخرى أثبت العزة للَّهِ ولرسوله وللمؤمنين.

{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} وَوَجْهُ الجميع بينها أن عِزَّ الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلاً من الله ولطفاً؛ فإذاً العِزَّةُ لله جميعاً، وعزُّه سبحانه -قُدْرتَه. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يُقْهَرُ؛ فيكون من صفات فعله على أول القولين.. ومن صفات ذاته على القول الآخر، ويقال العزيز هو الذي لا يُوصَلُ إليه مِنْ قولِهم: أرضٌ عَزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه، ويقال العزيز الذي لا مِثْلَ له؛ من قولهم؛ عَزَّ الطعام في اليد، فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.

قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}:... أراد به صعودَ قَبُولٍ، لأنَّ حقيقةَ الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام.

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي يَقْلِبُ عليهم مَكْرَهم فيما يتوهمونه من خيرٍ لهم يَقْلِبُه محنةً عليهم، ويقال: تَخْلِيَتُه إياهم ومَكْرَهم- مع قدرته على عصمتهم، وكَوْنُه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: مكر: فعل غير متعدّ. لا يقال: مكر فلان عمله فبم نصب {السيئات}؟ قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] أصله والذين مكروا والمكرات السيئات،أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].

{وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}: مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30].

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

...

.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

...

.

الثَّانِي: مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.

الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ}: هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {يَرْفَعُهُ}: قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} تقرير لبيان العزة، وذلك لأن الكفار كانوا يقولون نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، لأن البعد من الملك ذلة، فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه، فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب فمن قبل كلامه وصعد إليه فهو عزيز، ومن رد كلامه في وجهه فهو ذليل، وكذلك يرى عملكم، فمن عمل صالحا رفعه إليه، ومن عمل سيئا رده عليه، فالعزيز من الذي عمله لوجهه والذليل من يدفع الذي عمله في وجهه.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا. قلت: وهذا أحسن... وروي مرفوعا على ما يأتي "فلله العزة جميعا "ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره، فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله" [يونس: 65].

ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق، فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه. قال صلى الله عليه وسلم: (من

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسة الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً} [مريم: 81] قال مستنتجاً من ذلك: {من كان} أي في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي أن يكون محتاجاً إليه غيره، وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب {فلله} أي وحده {العزة جميعاً} أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها، ومن طلب الشيء من غير صاحبه خاب...

ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: {إليه} أي لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً أو علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه. ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: {والعمل الصالح يرفعه} هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم بالعمل كما قيل:

العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل.

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: {والذين يمكرون} أي يعملون على وجه الستر المكرات.

{السيئات} أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة.

{لهم عذاب شديد} كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة.

ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: {ومكر أولئك} أي البعداء من الفلاح {هو} أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير، فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداء من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر.

{يبور}... فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء، وحذف وضعه المكر السيئ ودل عليه برفعه للعمل الصالح.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة -شيئاً- إلى معنى نفسي ومطلب شعوري، ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء،...ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات، والكلمة الطيبة والعمل الصالح، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة. وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم. (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار).. وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة؛ وما فيهما من حياة ونماء، والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء! وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة، وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان، العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال، مما جعلهم يقولون: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).. فالله يقول لهم: (من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً) وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً! إن العزة كلها لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره (فلله العزّة جميعاً)..

إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة؛ وتخشى اتباع الهدى -وهي تعترف أنه الهدى- خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى. إن الناس هؤلاء، القبائل والعشائر وما إليها، إن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها (فلله العزّة جميعاً).. وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله، وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله.

إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية. وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل الحكم والتقدير، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والأسباب! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع، عارفاً طريقه إلى العزة، طريقه الذي ليس هنالك سواه! إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر، ولا لعاصفة طاغية، ولا لحدث جلل، ولا لوضع ولا لحكم ولا لدولة ولا لمصلحة ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً. وعلام؟ والعزة لله جميعاً، وليس لأحد منها شيء إلا برضاه.

ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).. ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله: القول الطيب والعمل الصالح. القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه؛ والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع، ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء. والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس. حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله. حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي، يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس، ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ومخاوفهم ومطامعهم؛ ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان.. وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان! إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل، وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار، وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة، وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح.. كلا! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله.

ثم هي خضوع لله وخشوع؛ وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء.. ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه. ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه. ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه. هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق.

ثم تكمل بالصفحة المقابلة: (والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور). ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون، ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء، فهؤلاء لهم عذاب شديد، فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور، فلا يحيا ولا يثمر من البوار ومن البوران سواء. وذلك تنسيقاً مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة. والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة. وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء. ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه. وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل. فأما المكر السيئ قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان. إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد. وعد الله، لا يخلف الله وعده. وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

مضى ذكر غرورين إجمالاً في قوله تعالى: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} [فاطر: 5]، {ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5] فأُخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6] وما استتبعه من التنبيه على أَحجار كيده وانبعاث سموم مكره، بداراً بتفصيل الأهم والأصلِ، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا.

وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئاً عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم، وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة؛ وُجّه الخطاب إليهم لكشفِ اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا.

والقربات كلُّها ترجع إلى أقوال وأعمال،وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإِخبار عنه بجملة {يرفعه} ولم يعطف على {الكلم الطيب} في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين:

أولاهما: الإِيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة، لأن معظم العمل الصالح أوسع نفعاً من معظم الكلم الطيب (عدا كلمة الشهادتين وما ورد تفضيله من الأقوال في السنة مثل دعاء يوم عرفة) فلذلك أسند إلى الله رفعه بنفسه كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقّاها الرحمان بيمينه، وكلتا يديه يمين، فيربيها له كما يربّي أحدكم فُلُوَّه حتى تصير مثل الجبل».

ثانيهما: أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء، فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعلة ومفعولة، فلا يناسبه إسناد الصعود إليه؛ وإنما يحسن أن يجعل متعلقاً لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع...

والمكر: تدبيرُ إلحاقِ الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره، وفعله قاصر... وكان حقّ وصف المصدر أن يكون مفرداً كقوله تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} [فاطر: 43] فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر، عُدل عن الإِفراد إلى الجمع، وأتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفَعَلاَت من المكر، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة، كما جاء ذلك في لفظ (صالحة)، وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دَأبهم وهِجِّيراهم.

{ومكر أولئك هو يبور} فالفصل هنا يفيد القصر، أي مكرهم يبور دون غيره.

البوار حقيقته: كساد التجارة وعدم نَفاق السلعة، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بضرّ، وبين ما ينمِّقه التاجر وما يخرجه من عيابه ويرصفه على مِبْنَاتِه وسط اللَّطِيمة مع السلع لاجتلاب شَرَه المشترين، ثم لا يُقبِل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيمَ كف الخيبة، فارغ الكف والعيبة...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

التأبِّي على الرسالات تأبٍّ على أن يكون المؤمن الذي يُكلَّف بتكليفات تِبَعاً لرأي غيره وطَوْع أمره، والرسول ما جاء إلا ليقول لنا (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، وبعض الناس يرى في هذه الطاعة خَدْشاً لكرامته وعزته، فهو يريد أنْ يكون الأعلى الذي لا يأمره أحد ولا ينهاه، وهؤلاء الذين تتحدث عنهم الآية يريدون أن تكون لهم العِزَّة في نفوسهم.

والحق -سبحانه وتعالى- هنا يُصحِّح لهم معنى العزة ويُبيِّن غباءهم، فيقول سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} أي: العزة الحقيقية لا المدَّعاة: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فالعزة الحقيقية ألاَّ تكون مغلوباً ولا مقهوراً لأحد، وهذه العزة لا وجودَ لها إلا في رحاب الله، فمهما بلغ الإنسانُ في الدنيا من القوة والجبروت لا بُدَّ أنْ يُغلب، ولا بُدَّ أنْ يقهره الموت، فإنْ كنتَ مغرماً بعزة لا تزول، فهي من جنب الله.

لذلك فالله تعالى يُعلِّمنا الحكمة، فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] يعني: أنا أعلم بك وأعلم بضعفك، وأنك في حاجة إلى مَنْ تتوكل عليه ليقضي لك الأمور التي فوق طاقتك، فإياك أنْ تلجأ إلى غيري، فأنا الباقي الذي لا يموت، فإنْ توكلْتَ على ضعيف مثلك، فربما مات قبل أنْ يقضى لك حاجتك، كذلك مَنْ أراد العزة فليكُنْ في حضن الله يعتزُّ بِعزَّته، ويتقوَّى بقوته، ومَنْ كان في حضن الله يخلع الله عليه من صفاته ويفيض عليه.

لذلك سيدنا رسول الله يعطينا هذا الدرس، "وهو في الغار، ومعه الصِّدِّيق -رضي الله عنه- فيقول الصِّديق: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول سيدنا رسول الله وهو واثق بربه: "يا أبا بكر ما بالك باثنين الله ثالثهما "" وحكى عنه القرآن قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

فهذه الطمأنينة التي ملأتْ قلب رسول الله منشؤها معية الله له ولصاحبه، وهذه المعية تقتضي أنْ يخلع الله عليهما من صفاته سبحانه، فإذا كان تعالى لا يُرى، فمَنْ كان في معيته كذلك لا يُرى.

ومعنى {الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يعني: كل ألوان العزة...

ثم يقول سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} دائماً نخاطب الله على جهة العلو، مع أنه سبحانه في كل مكان، وليس له مكان...

ومعنى {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هذا وصف عام لكل كلام يدلُّ على منهج الخير، وقد أعطانا القرآن مثالاً لذلك في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا..} [إبراهيم: 24-25].

وقد حاول العلماء تحديد هذه الكلمة، فقالوا هي: كلمة لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله ولا قوة إلا بالله، ولكن هذا التحديد يُضيِّق المعنى الواسع الذي أراده الله تعالى منها، والأصوب أن نقول الكلمة الطيبة: كل كلام يؤدي إلى خير.

وقوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} بعد أن تكلم سبحانه عن صعود الكلم الطيب يتكلم عن رفع العمل الصالح؛ لأن الإنسان قد يتكلم بالكلمة الطيبة دون أن تُؤدي مطلوبها، ودون أنْ يترجمها إلى عمل، وربما قالها نفاقاً مثلاً، كالذين قالوا لا إله إلا الله نفاقاً وفراراً من القتل، ومع ذلك تصعد إلى الله، فيقول الله احموه بهذه الكلمة دنياه، ولا تتعرضوا له ما دام نطق بها، إنما ليس له عليها جزاء في الآخرة؛ لأن الجزاء يتأتَّى من العمل الذي يخدم مدلول الكلمة، فالعبرة إذن بالعمل والعمل الصالح، فهو الذي يُرفع إلى الله، ويحميك في الدنيا، ويحميك في الآخرة، ويجمع لك الخيرين.

ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى المقابل: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} الفعل مكر يتعدى بحرف الجر نقول: مكر بفلان ومَكَره يعني: خدعه ويتعدَّى بنفسه كما في {يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} وأصلها يمكرون المكْرات السيئات، فهي وصف لمصدر مأخوذ من مادة الفعل مثل: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 122] أي: الأعمال الصالحات. أو مكر: فعل مكراً، فيكون المعنى: والذين فعلوا السيئات.

ثم يبين سبحانه جزاء المكر السيء: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لماذا؟ لأنك حين تمكر، كأنك تريد أنْ تسرق شيئاً من الله، وتظن أنه لن يدري بك، وغفلتَ أنك تُبيِّت المكر سِرًّا، وهو سبحانه يعلم السِّر والنَّجْوى، وأنك حين تمكر وحين تُبيِّت تُبيِّت على قدر إمكاناتك، وربك عز وجل كذلك يمكر ويُبيِّت على قدر إمكاناته، وقدرته تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. لذلك يبوء هذا المكر بالخسران وبالبوار، كما قال سبحانه: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} فهو مَكْر بائر، كالأرض البَوَار التي لا تنبت ولا تنتج، ومنه قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28].

فهذا المكر الذي ظنه صاحبه ينفعه، ويرفعه على خَصْمه، ويجعل نفسه عالية عليه، إذا به يبور، ولا يؤتى ثماره، ولَيْته يبور وتنتهى المسألة، إنما ينقلب عليه ويجرُّ على صاحبه العذاب الشديد.

ومعنى {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} اللام تفيد الملكية، فهنا قلب يعني: لهم عذاب أي: استحقوه وكأن العذاب يحرص عليهم كما يحرص الإنسان على ما يملك، فهو عذاب ملازم لهم لا ينفك عنهم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

«العزّة»: على ما يقول الراغب في مفرداته: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب.. من قولهم: أرض عزاز، أي صُلبة، ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب، وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله

(السيّئات): كلّ القبائح والمذمومات، أعمّ من القبائح الاعتقادية أو العملية، وما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إبعاده عن مكّة، فليس هو إلاّ أحد مصاديق الكلمة دون مفهومها العامّ.

جملة «يبور» من مادّة «بوار» و «بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء، وكما قيل «كسد حتّى فسد». ملاحظتان:

يتّضح لنا بالتحليل أنّ حقيقة العزّة بالدرجة الاُولى قدرة تتجلّى في قلب وروح الإنسان، وتبعده عن الخضوع والتسليم والاستسلام أمام الطغاة والعصاة، قدرة بامتلاكها لا يخضع الإنسان للشهوات أبداً، ولن يجد الهوى والهوس طريقاً للتسلّط عليه.

هذا في مرحلة الفكر والاعتقاد والروح، أمّا في مرحلة العمل فإنّ «العزّة» تنبع من الأعمال السليمة الأصل والدقيقة الاُسلوب، وبتعبير آخر يمكن تلخيص ذلك ب«العمل الصالح» هذان الاثنان يعطيان الإنسان العظمة والرفعة والعزّة والمنعة. «السحرة» المعاصرون لفرعون، شرعوا بحيلهم باسم فرعون وبعزّته (وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون). ولكنّهم هزموا بسرعة أمام عصى موسى (عليه السلام)، وبمجرّد أن خرجوا من ذلّة فرعون، ولجأوا إلى ظلّ التوحيد وآمنوا، أصبحوا أقوياء لا يمكن هزيمتهم بحيث لم تؤثّر بهم أشدّ تهديدات فرعون، وقدّموا أيديهم وأرجلهم وحتّى أرواحهم العاشقة الوالهة وتجرّعوا كأس الشهادة، ودلّلوا بذلك العمل على عدم استسلامهم أمام الترغيب والترهيب، وعدم انهزامهم، وأصبح تأريخهم اليوم بالنسبة لنا عالماً من الدروس البليغة.

الفرق بين «الكلام الطيّب» و «العمل الصالح»:

«الكلم الطيّب» إشارة إلى الإيمان والاعتقاد السليم، وذلك هو عين الصعود إلى الله، وحقيقة الإيمان ليس سوى ذلك، ولكن «العمل الصالح»: الذي يتقبّله الله تعالى ويضاعف الأجر عليه، ويعطيه الدوام والبقاء ثمّ يرفعه.