الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

كان الكافرون يتعزرون بالأصنام ، كما قال عزّ وجلّ : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] ، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] فبين أن لا عزة إلاّ لله ولأوليائه . وقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } والمعنى فليطلبها عند الله ، فوضع قوله : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } موضعه ، استغناء به عنه لدلالته عليه ؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه . ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد : فليطلبها عندهم ؛ إلاّ أنك أقمت ما يدل عليه مقامه . ومعنى : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أنّ العزّة كلها مختصة بالله : عزة الدنيا وعزة الآخرة . ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } والكلم الطيب : لا إله إلاّ الله . عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنّ هذه الكلم لا تقبل . ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة ، كما قال عزّ وجلّ : { إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] إلاّ إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها . وقيل : الرافع الكلم ، والمرفوع العمل ؛ لأنه لا يقبل عمل إلاّ من موحد . وقيل : الرافع هو الله تعالى ، والمرفوع العمل . وقيل : الكلم الطيب : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه » وفي الحديث : « ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل ، ولا يقبل قولاً ولا عملاً إلاّ بنية ، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بإصابة السنة » وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وقرىء : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على البناء للمفعول . و { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على تسمية الفاعل ، من أصعد والمصعد : هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب ، وإليه يصعد الكلام الطيب . وقرىء : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } ، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عزّ وجلّ .

فإن قلت : مكر : فعل غير متعدّ . لا يقال : مكر فلان عمله فبم نصب { السيئات } ؟ قلت : هذه صفة للمصدر ، أو لما في حكمه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] أصله والذين مكروا والمكرات السيئات . أو أصناف المكر السيئات ، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم : إما إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] . { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } يعني : مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور ، أي : يكسد ويفسد ، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] وقوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } .