يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[7986]} .
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه .
وقوله : { إِلا خَطَأً } قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر{[7987]}
من البيض لم تَظْعن بعيدا ولم تَطَأ *** على الأرض إلا رَيْطَ بُرْد مُرَحَّل{[7988]} .
واختلف في سبب نزول هذه [ الآية ]{[7989]} فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش{[7990]} بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة{[7991]} - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو الحارث بن يزيد العامري ، فأضمر له عَيّاش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه ، فظن أنه على دينه ، فحمل عليه فقتله . فأنزل الله هذه الآية{[7992]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء ؛ لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام{[7993]} حين رفع{[7994]} السيف ، فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما قالها متعوذا . فقال له : " هل شققت عن قلبه " {[7995]} [ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء ]{[7996]} .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ]{[7997]} } هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة .
وحكى ابن جرير ، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدًا للإيمان . وروي من طريق عبد الرزاق{[7998]} عن معمر ، عن قتادة قال : في حرف ، أبي : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لا يجزئ فيها صبي .
واختار ابن جرير إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ ، وإلا فلا . والذي عليه الجمهور : أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا .
وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزُّهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ؛ أنه جاء بِأَمَةٍ سوداء ، فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ " قالت : نعم . قال : " أتشهدين أني رسول الله ؟ " قالت نعم . قال : " أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ " قالت : نعم ، قال : " أعتقها " .
وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر{[7999]} .
وفي موطأ [ الإمام ]{[8000]} مالك ومسندي الشافعي وأحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن{[8001]} أبي داود والنسائي ، من طريق هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا " قالت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " {[8002]} .
وقوله : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل ، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم . وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جَذَعة{[8003]} وعشرين حِقَّة .
لفظ النسائي ، وقال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا{[8004]} .
وكذا روي عن [ علي و ]{[8005]} طائفة .
وقيل : تجب أرباعا . وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله ، قال الشافعي ، رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر{[8006]} من حديث الخاصة{[8007]} وهذا الذي أشار إليه ، رحمه الله ، قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هُذَيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى أن دية جنينها غُرَّة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها{[8008]} .
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد ، لشبهه به .
وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا . فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " . وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم ، حتى مِيلَغة الكلب{[8009]} .
وهذا [ الحديث ]{[8010]} يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال .
وقوله : { إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا{[8011]} بها فلا تجب .
وقوله : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : إذا كان القتيل مؤمنا ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل{[8012]} تحرير رقبة مؤمنة لا غير .
وقوله : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ] }{[8013]} الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ، فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء . وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها ، كما هو مفصل في [ كتاب الأحكام ]{[8014]} ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا إفطار بينهما ، بل يسرد{[8015]} صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر ، من مرض أو حيض أو نفاس ، استأنف . واختلفوا في السفر : هل يقطع أم لا ؟ على قولين .
وقوله : { تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين .
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام : هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا ، كما في كفارة الظهار ؟ على قولين ؛ أحدهما : نعم . كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص . القول الثاني : لا يعدل إلى الإطعام ؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قد تقدم تفسيره غير مرة .
قال جمهور المفسرين : معنى هذه الآية : وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير لكن الخطأ قد يقع .
وهذا كقول الشاعر [ الهذلي ] : [ البسيط ]
أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ *** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ{[4188]}
قال القاضي أبو محمد : سقام اسم واد ، والغرف شجر يدبغ بلحائه ، وكما قال جرير : [ الطويل ]
مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيداً وَلَمْ تَطَأْ . . . على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ{[4189]}
وفي هذا الشاهد نظر ، ويتجه في معنى الآية وجه آخر ، وهو أن تقدر { كان } بمعنى استقر ووجد ، كأنه قال ، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ { لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً } ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً ، إعظاماً العمد وبشاعة شأنه ، كما تقول : ما كان لك مقصوراً غير مهموز{[4190]} ، وقرأ الحسن والأعمش مهموزاً ممدوداً{[4191]} ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة{[4192]} ، وذلك أنه كان يعذبه بمكة ، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجراً فلقيه عياش بالحرة ، فظنه على كفره فقتله ، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قم فحرر »{[4193]} .
وقال أبو زيد : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنماً وهو يتشهد فقتله وساق غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية{[4194]} .
وقيل : نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد ، وقيل غير هذا ، والله أعلم وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً } الآية ، بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل ، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى ، يربطها عدم القصد ، قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : «الرقبة المؤمنة » هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان ، ولا يجزىء في ذلك الصغير ، وقال عطاء بن أبي رباح : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين ، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس : يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه ، قال مالك : ومن صلى وصام أحب إليّ ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان النقصان يسيراً تتفق له معه المعيشة والتحرف ، كالعرج ونحوه ففيه قولان ، و { مسلمة } معناه مؤادة مدفوعة ، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية ، و { إلا أن يصدقوا } يريد أولياء القتيل ، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا » وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا » بالتاء على المخاطبة للحاضر ، وقرأ نبيح العنزي{[4195]} «تصدقوا » بالتاء وتخفيف الصاد ، و«الدية » مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم ، وعند آخرين على الناس كلهم ، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة ، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة ، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت ، واختلف في المائة من الإبل ، فقال علي بن أبي طالب : هي مربعة ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون{[4196]} ، وقال عبد الله بن مسعود : مخمسة ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ذكراً ، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب ، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة . ومن الغنم ألفي شاة ، ومن الحلل مائة حلة ، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود{[4197]} ، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب ، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل ، فمضى القول على ذلك ، وأما الذهب فهي ألف دينار ، قررها عمر ومشى الناس عليها ، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفاً ، وبه قال مالك ، وجماعة تقول : عشرة آلاف درهم . وقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } الآية . المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم ، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً ، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم ، فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر ، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية ، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين ، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها ، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية فيه ، واحتجوا بقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا }{[4198]} وقالت فرقة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، كفارته التحرير ولا دية فيه ، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقائل المقالة الأولى يقول : إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة ، وقوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية ، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن » وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضاً .
المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير ، واختلف على هذا في دية المعاهد ، فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال مالك وأصحابه : ديته على نصف دية المسلم ، وقال الشافعي وأبو ثور : ديته على ثلث دية المسلم ، وقوله تعالى : { فمن لم يجد } الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين » متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر{[4199]} ، وقال مكي عن الشعبي : «صيام الشهرين » يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها ، وهذا القول وهم{[4200]} ، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل ، والطبري حكى القول عن مسروق ، و { توبة } نصب على المصدر معناه رجوعاً بكم إلى التيسير والتسهيل .
انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض ، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض : من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض .
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه : أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم ، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتلِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشىء عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً . وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان ، والحادث المشار إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } [ النساء : 94 ] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك ، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل .
هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم ، وجعله في حَيّز ما لا يكون ، فقال : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فجاء بصيغة المبالغة في النفي ، وهي صيغة الجحود ، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ ، أو أن يَقتُل قَتْلاً من القتل إلاّ قَتْل الخطأ ، فكان الكلام حصراً وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمناً فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن ، على نحو « ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها ، غير مراد بها التشريع ، بل هي كالمقدّمة للتشريع ، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلاً غيرَ خطإ ، وتكون خبرية لفظاً ومعنًى ، ويكون الاستثناء حقيقيّاً من عموم الأحوال ، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمناً في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد ، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية .
ولك أن تجعل قوله : { وما كان لمؤمن } خبراً مراداً به النهي ، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي ، وتجعل قوله : { إلاّ خطئاً } ترشيحاً للمجاز : على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل ، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي ، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي ، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذوناً فيه للمؤمن ، فهو قتل الخطأ ، وقد عُلم أنّ المخطىء لا يأتِي فعلَه قاصداً امتثالاً ولا عصياناً ، فرجع الكلام إلى معنى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً قتلاً تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبداً ، فتكون الجملة مبدأ التشريع ، وما بعدها كالتفصيل لها ؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله : { إلاّ خطئاً } .
وذهب المفسّرون إلى أنّ { ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } مراد به النهي ، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى ( لَكِن ) فراراً من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمناً خطأ ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا .
وإنّما جيء بالقيد في قوله : { ومن قتل مؤمناً خَطَئاً } لأنّ قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ ، فيستغنى عن تقييده به .
روى الطبري ، والواحدي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ عيّاشاً بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخاً أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه ، فأتوه بالمدينة وقالوا له : إنّ أمّك أقسمت أن لا يُظلِهَّا بيت حتّى تراك ، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع ، وأعطوه موثقاً من الله أن لا يُهجوه ، ولا يحولوا بينه وبين دِينه ، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه ، ودخلوا به مكة ، وقالوا له « لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به » . وكان الحارثُ بنُ زيد يجلده ويعذّبه ، فقال عيّاش للحارث « والله لا ألقاك خالياً إلاّ قتلتك » فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقُباء ، وكان الحارثُ قد أسلم ولم يَعلم عياش بإسلامه ، فضربه عياشٌ فقتله ، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة .
وفي ابن عطية : قيل نزلت في اليمان ، والد حذيفة بن اليمان ، حين قتله المسلمون يوم أحُد خطأ .
وفي رواية للطبري : أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة ، فعدل إلى شعب فوجد رَجلاً في غنم له ، فحمَل عليه أبو الدرداء بالسيف ، فقال الرجل « لا إله إلاّ الله » فضربَه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية ، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت الآية .
وقوله : { فتحرير رقبة } الفاء رابطة لِجواب الشرط ، و ( تحرير ) مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب : لظهور أنّ المعنى : فحكمهُ أو فشأنه تحرير رقبة كقوله : { فصبر جميل } [ يوسف : 18 ] . والتحرير تفعيل من الحُريّة ، أي جعل الرقبة حرّة . والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ ، كما يقولون ، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير .
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر ، وأقيمت عليها ثروات كثيرة ، وكانت أسبابها متكاثرة : وهي الأسر في الحروب ، والتصيير في الديوان ، والتخطّف في الغارات ، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ ، والرهائن في الخوف ، والتداين .
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر ، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال ، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين ، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر ، قال النابغة :
حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي *** ولا نِسْوَتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا
ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة ، ومنها مندوب إليها . ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا . وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة ، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل ، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه ، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف ، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة ، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة . وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى : { وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً } في سورة المائدة ( 20 ) ، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم .
وثانيهما الدية . والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما ، كما سيأتي .
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن . وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة ، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها . قال الحَماسي :
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فديـة *** لَسُقْنَا لهـــم سَيْباً من المال مُفْعَما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ *** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه . قال زهير :
تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت *** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم
وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية ، قيل : إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم ، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل ، فجرت في قريش كذلك ، ثمّ تبعهم العرب ، وقيل : أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني ، وكانت ديَة المَلِك ألفاً من الإبل ، ودية السادة مائتين من الإبل ، وديّة الحليف نصف دية الصّميم . وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن . إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة .
وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مُخمسَّة أخماساً : عشرون حقّة ، وعشرون جَذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون .
ودية العمد ، إذا رضي أولياء القتيل بالدية ، مربَّعة : خمسٌ وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل . وتغلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد ، إذا قتل ابنَه خطأ : ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة ، أي نوقاً في بطونها أجنّتُها . وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً فجعلت على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الديّة على أهل البَقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الغنم ألفيَ شاةٍ . وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحُلل ، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن ، مائة حلّة . والحلّة ثوبان من نوع واحد .
ومعيار تقدير الديات ، باختلاف الأعصار والأقطار ، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة . ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل . ودية الكتابي على النصف من دية المسلم . ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي . وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم ، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلةِ القاتل .
والدية بتخفيف الياء مصدر وَدَي ، أي أعطى ، مثل رمَى ، ومصدره وَدْي مثل وعد ، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً ، لأنّ الواو ثقيلة ، كما حذفت في عِدّة ، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شِيَة من الوشي .
وأشار قوله : { مسلَّمَةٌ إلى أهله } إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل . وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل ، فإنّ الأهل هو القريب ، والأحقّ بها الأقرب . وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلاّ أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته . وهي بمنزلة تعويض المتلفات ، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبّب القاتلُ في قتله ، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية ، ولذلك قالوا : تَكايُل الدّماء ، وقالوا : هُما بَوَاء ، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم .
وجَعَل عفوَ أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيباً في العفو .
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة ، وذلك تقرير لِما كان عليه الأمر قبل الإسلام .
والعاقلة : القَرابة من القبيلة . تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب .
وقوله : { فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن } الآية أي إن كان القتيل مؤمناً وكان أهله كفاراً ، بينَهم وبين المسلمين عداوة ، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم ، لأنّ الدية : إذا اعتبرناها جبَراً لأولياء الدم ، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم ، وإذا اعتبرناها عِوضاً عن منافع قتيلهم ، مثل قيم المتلفات ، يَكون منعُها من الكفّار ؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم ، ولأنّا لا نعْطيهم مالَنا يَتقوون به علينا .
وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ، إن كان القتيل المؤمن باقياً في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّاراً ، فقال ابن عبّاس ، ومالك ، وأبو حنيفة : لا تسقط عن القاتل ديته ، وتُدفع لبيت مال المسلمين . وقال الشافعي ، والأوزاعي ، والثَّوري : تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار . وظاهر قوله تعالى : { وإن كان من قوم عدوّ } أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته ، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها .
وأخبر عن { قوم } بلفظ { عدوّ } وهو مفرد ، لأنّ فَعولاً بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفرداً مذكَّراً غيرَ مطابق لموصوفه ، كقوله : { إنّ الكافرين كانُوا لكم عدوّاً مبيناً } [ النساء : 101 ] { لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] { وكذلك جعلنا لكلّ نبيء عدوّاً شياطين الأنس } [ الأنعام : 112 ] ، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عَدوّة . وفي كلام عمر بن الخطاب في « صحيح البخاري » أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه « يا عدوّات أنفُسِهِنُّ » . ويجمع بكثرة على أعداء ، قال تعالى : { ويوم نحشر أعداء الله إلى النار } [ فصلت : 19 ] .
وقوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي إن كان القتيل المؤمن . فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق ، أيّ عهدٌ من أهل الكفر ، ديةَ قتيلهم المؤمننِ اعتداداً بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل ، وليست مالاً موروثاً عن القاتل ، إذ لا يرث الكافر المسلم ، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارثٌ مؤمنٌ في قوم معاهدَين ، أو يكون المقتول معاهداً لا مؤمناً ، بناء على أنّ الضمير في « كان » عائد على القتيل بدون وصف الإيمان ، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قَتل مؤمناً خطأ . ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله : { وهو مؤمن } لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله : { من قوم عدوَ لكم } أن يَظُنَ أحد أنّه أيضاً عدوّ لنا في الدّين . وشرط كون القتيل مؤمناً في هذا لحكم مدلول بحَمْل مطلقه هنا على المقيَّد في قوله هنالك { وهو مؤمن } ، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله : { ومن قَتَل مؤمناً خطئاً } ، وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة .
وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه ، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهَد ، يُقتل خطأ فتجب الدية وتحريرُ رقبة ، وهو قول ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، ولكنّهم قالوا : إنّ هذا كان حكماً في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل ، حتّى يسلموا أو يؤذَنوا بحَرب ، وإنّ هذَا الحكم نسِخ .
وقوله : { فصيام شهرين متتابعين } وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما . لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين .
وقوله : « توبة من الله » مفعول لأجله على تقدير : شرع الله الصيام توبة منه . والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب ( من ) ، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } [ النساء : 17 ] في هذه السورة ، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم . ولك أن تجعل { توبة } مفعولاً لأجله راجعاً إلى تحرير الرقبة والدية وبَدلِهِما ، وهو الصيام ، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل ، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبهُ على أسباب الخطأ ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم . أو هو حال من « صيام » ، أي سببَ توبة ، فهو حال مجازية عقلية .